إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (159)

{ إِنَّ الذين فَرَّقُوا دِينَهُمْ } استئنافٌ لبيان أحوالِ أهلِ الكتابين إثرَ بيانِ حالِ المشركين أي بدّدوه وبعّضوه فتمسك بكل بعضٍ منه فِرقةٌ منهم ، وقرئ فارقوا أي باينوا ، فإن تركَ بعضِه وإن كان بأخذ بعضٍ آخرَ منه تركٌ للكل ومفارقةٌ له { وَكَانُوا شِيَعاً } أي فِرقاً تشيّع كلُّ فِرقةٍ إماماً لها قال عليه الصلاة والسلام : «افترقت اليهودُ والنصارى على إحدى وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة » واستثناء الواحدة من فِرَق كلٍّ من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخِ وأما بعده فالكلُّ في الهاوية وإن اختلفت أسبابُ دخولِهم فمعنى قوله تعالى : { لَسْتَ مِنْهُمْ في شيء } لست من البحث عن تفرقهم والتعرّضِ لمن يناصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة ، وقيل : من قتالهم في شيء سوى تبليغِ الرسالةِ وإظهارِ شعائرِ الدين الحقِّ الذي أُمرت بالدعوة إليه فيكون منسوخاً بآية السيف ، وقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله } تعليلٌ للنفي المذكورِ أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وأخراهم ويدبره كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة يؤاخذهم في الدنيا التي شاء ويأمر بقتالهم إذا أراد وقيل : المفرقون أهل البدع والأهواء الزائغة من هذه الأمة ويرده أنه عليه الصلاة والسلام مأمور بمؤاخذتهم والاعتذار بأن معنى لست منهم في شيء حينئذ أنت بريء منهم ومن مذهبهم وهم برآء منك يأباه التعليل المذكور { ثُمَّ يُنَبّئُهُم } أي يوم القيامة { بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهلين بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء .