فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (159)

{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون 159 من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون 160 قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين 161 } .

{ إن الذين فرقوا } أي تركوا { دينهم } وخرجوا عنه باختلافهم فيه ، والمعنى أنهم جعلوا دينهم متفرقا فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه ، قيل المراد بهم اليهود ، قاله مجاهد ، وقيل اليهود والنصارى ، وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك .

وقد ورد في معنى هذا في اليهود قوله تعالى { وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وقيل المراد بهم المشركون ، عبد بعضهم الأصنام وبعضهم الملائكة وبعضهم الكواكب ، فكان هذا هو تفريق دينهم .

وقال أبو هريرة : هم أهل الضلالة من هذه الأمة ، وقيل الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله ، وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الاسلام .

وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والحكيم والترمذي والشيرازي في الألقاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال ( هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة ) {[729]} وفي إسناده عبد بن كثير وهو متروك الحديث ولم يرفعه غيره ومن عداه وقفوه على أبي هريرة ، وعن أبي أمامة قال هم الحوارية ، وروي عنه مرفوعا ولا يصح رفعه .

وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : ( يا عائش إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة وهم مني براء ) {[730]} ، رواه الطبري والبيهقي وأبو نعيم وغيرهم . قال ابن كثير هو غريب لا يصح رفعه .

فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة .

وروى أبو داود والترمذي عن معاوية قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين إثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة وهي الجماعة ) {[731]} ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين ملة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : من كان على ما أنا عليه وأصحابي ) أخرجه الترمذي{[732]} .

{ وكانوا شيعا } أي فرقا وأحزابا فيصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحد مجتمعا ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق .

{ لست منهم } أي من تفرقهم أو من السؤال عن سبب تفرقهم والبحث عن موجب تحزبهم { في شيء } من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( من غشنا فليس منا ) أي نحن برآء منه{[733]} .

وقال الفراء : لست من عقابهم في شيء وإنما عليك الإنذار ، وقيل لست في قتال الكفار ، وعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال والأول أولى .

{ إنما أمرهم } يعني في الجزاء والمكافأة { إلى الله } فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم أي هو مجاز لهم بما تقتضيه مشيئته ، والحصر بإنما هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له { ثم } هو { ينبئهم } يوم القيامة ويخبرهم بما ينزل بهم من المجازاة { بما كانوا يفعلون } من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم .

ولما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد ، بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم بأن { من جاء بالحسنة } الواحدة من الحسنات ، عن ابن مسعود أي قال لا إله إلا الله ، وعن ابن عباس وأبي هريرة مثله وعن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين يا رسول الله لا إله إلا الله حسنة قال ( نعم أفضل الحسنات ) ، أخرجه عبد بن حميد ، وهذا مرسل لا ندري كيف إسناده إلى سعيد .

{ فله } من الجزاء يوم القيامة { عشر } حسنات { أمثالها } فأقيمت الصفة مقام الموصوف ، وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة ، وهذا هو أقل ما يستحقه عامل الحسنة ، وقد وردت الزيادة على هذا عموما وخصوصا ففي القرآن [ كمثل حبة أنبتت سبع سنابل الآية ] ، وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب ، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى سبعين وإلى سبعمائة وإلى ألوف مؤلفة . وفضل الله واسع وعطاؤه جم ، وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير فليرجع إليهما .


[729]:ابن كثير 2/196.
[730]:ابن كثير 2/196.
[731]:صحيح الجامع الصغير 2638.
[732]:صحيح الجامع الصغير 5219.
[733]:صحيح الجامع الصغير 6283.