في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا} (76)

73

وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول [ ص ] إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض - أي مكة - ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا ، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا} (76)

قيل : نزلت في اليهود ، إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء ، وترك سكنى المدينة .

وهذا القول ضعيف ؛ لأن هذه الآية مكية ، وسكنى المدينة بعد ذلك .

وقيل : إنها نزلت بتبوك . وفي صحته نظر .

قال البيهقي ، عن الحاكم ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي ، عن يونس بن بُكيْر ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ؛ أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا : يا أبا القاسم ، إن كنت صادقًا أنك نبي ، فالحق بالشام ؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء . فصدق{[17696]} ما قالوا ، فغزا غزوة تبوك ، لا يريد إلا الشام . فلما بلغ تبوك ، أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا } إلى قوله : { تَحْوِيلا } فأمره الله بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك ومماتك ، ومنها تبعث{[17697]} .

وفي هذا الإسناد نظر . والأظهر أن هذا ليس{[17698]} بصحيح ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود ، إنما غزاها امتثالا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } [ التوبة : 123 ] ، وقوله{[17699]} تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [ التوبة : 29 ] . وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة ، من أصحابه ، والله أعلم . ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم ، عن عُفَير بن معدان ، عن سُلَيم بن عامر ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة ، والمدينة ، والشام " {[17700]} . قال الوليد : يعني بيت المقدس . وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد : إنه بيت المقدس والله أعلم .

وقيل : نزلت في كفار قريش ، هموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم ، فتوعدهم الله بهذه الآية ، وأنهم لو أخرجوه{[17701]} لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرًا . وكذلك وقع ؛ فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم ، بعد ما اشتد أذاهم له ، إلا سنة ونصف . حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد ، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم ، فقتل أشرافهم{[17702]} وسبى سراتهم{[17703]} ؛ ولهذا قال : { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا }


[17696]:في ت، ف: "قال: فصدق".
[17697]:دلائل النبوة (5/254).
[17698]:في ت: "ليس هذا".
[17699]:في ف: "ولقوله".
[17700]:رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/201). من طريق هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم به، وعفير بن معدان ضعيف.
[17701]:في ت: "خرجوه".
[17702]:في ت: "أشرارهم".
[17703]:في ف، أ: "ذراريهم".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا} (76)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول عزّ وجلّ: وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض: يقول: ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها، "وَإذا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً "يقول: ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلاّ قليلاً، حتى أهلكهم بعذاب عاجل.

واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوه من الأرض، وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها؛

فقال بعضهم: الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود، والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها المدينة...

وقال آخرون: بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا، والأرض مكة... عن قتادة، قوله "وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإذا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً" وقد همّ أهل مكة بإخراج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك لما توطنوا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر... [و] قال: قد فعلوا بعد ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولم يلبثوا بعده إلاّ قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر. وكذلك كانت سنّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك...

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول قتادة... وذلك أن قوله: "وَإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ" في سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر، فيوجه قوله "وَإنْ كادُوا" إلى أنه خبر عنهم، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره. وأما القليل الذي استثناه الله جلّ ذكره في قوله: "وإذا لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ إلاّ قَلِيلاً" فإنه فيما قيل، ما بين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر... وعُنِي بقوله "خلافك": بعدك... وقد حُكي عن بعضهم أنه كان يقرأها: خلفك. ومعنى ذلك، ومعنى الخلاف في هذا الموضع واحد.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَإِن كَادُواْ} وإن كاد أهل مكة {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم {مّنَ الأرض} من أرض مكة {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ} لا يبقون بعد إخراجك {إِلا} زماناً {قَلِيلاً} فإن الله مهلكهم وكان كما قال، فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. وقيل: معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم. ولم يخرجوه، بل هاجر بأمر ربه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما بين أنهم استمالوه بالرفق حتى كادوا -لولا العصمة- أن يميلوه، دل على أنهم أخافوه بعد ذلك حتى كادوا أن يخرجوه من وطنه قبل الإذن الخاص بالهجرة فقال تعالى: {وإن} أي وإنهم {كادوا} أي الأعداء {ليستفزونك} أي يستخفونك بكثرة الأذى الذي من شأنه ذلك فيما جرت به العوائد {من الأرض} أي المكية التي هي الأرض كلها لأنها أمها {ليخرجوك منها} مع أن وجودك عندهم رحمة لهم، فلا أعمى منهم! وأصل الفز القطع بشدة -قاله الرماني، {وإذاً} أي وإذا أخرجوك {لا يلبثون خلافك} أي بعد إخراجك لو أخرجوك {إلا قليلاً} وسيعلمون إذا أذنا لك في النزوح كيف نصبّ عليهم العذاب بعد خروجك بقليل، برمحك الطويل، وسيفك الصقيل، وسيوف أتباعك المؤمنين، لثبوت هذا الدين، وقد حقق الله سبحانه هذا الوعيد بقتل صناديدهم في غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة بعد ثمانية عشر شهراً من مهاجرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض -أي مكة- ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا، لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والاستفزاز: الحمل على الترحل، وهو استفعال من فَزّ بمعنى بارح المكان، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازاً، أي خارجاً من مكة. وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله: {واستفزز من استطعت} في هذه السورة [الإسراء: 64]. والمعنى: كادوا أن يخرجوك من بلدك. وذلك بأن هَمُّوا بأن يخرجوه كرهاً ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجراً عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يُبقوه بينهم حتى يقتلوه...

والتعريف في {الأرض} تعريف العهد، أي من أرضك وهي مكة.

{ليخرجوك} تعليل للاستفزاز، أي استفزازاً لقصد الإخراج. والمراد بالإخراج: مفارقة المكان دون رجوع. وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز لأن الاستفزاز أعم من الإخراج...

و {خلفك} أريد به بعدك. وأصل الخلف الوراء فاستعمل مجازاً في البعدية

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

والحكمة في ذلك والله أعلم أن الله تعالى كان قد قدر في سابق علمه وأزله أنهم مهما طال عليهم الأمد فهم لا بد من الشرك خارجون، وفي دين الله داخلون، فصرفهم الحق سبحانه وتعالى عن إخراج الرسول من أرضه، حفاظا عليهم إلى اليوم الموعود، يوم فتح مكة المشهود، إذ لو أخرجوه فعلا لعاقبهم الله على جريمتهم الشنعاء، بالإبادة والفناء...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

...وبما أنَّ كلمة «يستفزونك» مُشتقة مِن «استفزاز» التي تأتي في بعض الأحيان بمعنى قطع الجذور، وفي أحيان أُخرى بمعنى الإِثارة مع السرعة والمهارة، فإِنّنا نفهم مِن ذلك أنَّ المشركين وضعوا خطّة محكمة تجعل الوسط المحيط بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مناسب له، وتُثير عامّة الناس ضدَّه كي يخرجوه بسهولة مِن مكّة. لكن هؤلاء لا يعرفون أنَّ هناك قوّة أعظم مِن قوّتهم، وهي قوّة الخالق الكبير حيث تتلاشى إِرادتهم دون إِرادته عزَّ وجلّ...