يعطي عن سعة ، ويعلم ما يوسوس في الصدور ، وما يهجس في الضمير ، والله لا يعطي المال وحده ، ولا يعطي المغفرة وحدها . إنما يعطي ( الحكمة ) وهي توخي القصد والاعتدال ، وإدراك العلل والغايات ، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك :
( يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) . .
أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود ؛ وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور ؛ وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال . . وذلك خير كثير متنوع الألون . .
( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) . .
فصاحب اللب - وهو العقل - هو الذي يتذكر فلا ينسى ، ويتنبه فلا يغفل ، ويعتبر فلا يلج في الضلال . . وهذه وظيفة العقل . . وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله ؛ وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا .
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه . هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي : رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة . . وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى : أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها ، بل يعينه عليها : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) . . ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيهالحكمة ، وتمنحه ذلك الخير الكثير .
وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) . ( يؤتي الحكمة من يشاء . . . ) . .
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما : طريق الله . وطريق الشيطان . أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان . ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده . . ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق . . المنهج الذي شرعه الله . . وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان .
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد . كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب . ليست هنالك شبهة ولا غشاوة . . الله . أو الشيطان . منهج الله أو منهج الشيطان . طريق الله أو طريق الشيطان . . ولمن شاء أن يختار . . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة . . وإنما هو الهدى أو الضلال . وهو الحق واحد لا يتعدد . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ !
وقوله : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وروى جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعًا : الحكمة : القرآن{[4479]} . يعني : تفسيره ، قال ابن عباس : فإنه [ قد ]{[4480]} قرأه البر والفاجر . رواه ابن مَرْدُويه .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول .
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ليست بالنبوة ، ولكنه العلم والفقه والقرآن .
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس كل حكمة .
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق بقية ، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني ، عن أبي عمار الأسدي ، عن ابن مسعود مرفوعًا : " رأس الحكمة مخافة الله " {[4481]} .
وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة : الكتاب والفهم . وقال إبراهيم النخَعي : الحكمة : الفهم . وقال أبو مالك : الحكمة : السنة . وقال ابن وهب ، عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة : العقل . قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك ، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه ، عالمًا بأمر دينه ، بصيرًا به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة : الفقه في دين الله .
وقال السدي : الحكمة : النبوة .
والصحيح أن الحكمة - كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ، كما جاء في بعض الأحاديث : " من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه{[4482]} غير أنه لا يوحى إليه " {[4483]} . رواه{[4484]} وَكِيع بن الجراح في تفسيره ، عن إسماعيل بن رافع{[4485]} عن رجل لم يسمه ، عن عبد الله بن عمر {[4486]} وقوله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويزيد{[4487]} قالا حدثنا إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم - عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " {[4488]} .
وهكذا رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة - من طرق متعددة - عن إسماعيل بن أبي خالد ، به{[4489]} .
وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة}: ومن يعط الحكمة، وهي علم القرآن والفقه فيه، {فقد أوتي خيرا كثيرا}: فقد أعطى خيرا كثيرا. {وما يذكر} فيما يسمع، {إلا أولو الألباب}: أهل اللب والعقل.
190- القرطبي: قال مالك بن أنس: الحكمة: المعرفة بدين الله، والفقه فيه، والاتباع له. وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الحكمة: التفكر في أمر الله والاتباع له. وقال أيضا: الحكمة طاعة الله، والفقه في الدين والعمل به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيراً كثيراً.
واختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع: هي القرآن والفقه به.
وقال آخرون: معنى الحكمة: الإصابة في القول والفعل.
وقال آخرون: هو العلم بالدين. وقال آخرون: الحكمة: الفهم. وقال آخرون: هي الخشية. وقال آخرون: هي النبوّة.
وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة، وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وأنها الإصابة بما دلّ على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. فإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلاً فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضعٍ الصواب في أموره فهماً خاشياً لله فقيهاً عالماً، وكانت النبوّة من أقسامه، لأن الأنبياء مسددون مفهّمون، وموفّقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوّة بعض معاني الحكمة.
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيراً كثيراً.
"وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُو الألْبَابِ": وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات التي وعظ فيها المنفقين أموالَهُم بما وعظ به غيرهم فيها، وفي غيرها من آي كتابه، فيذكر وعده ووعيده فيها، فينزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به، "إِلاّ أُولُوا الألْبَابِ": إلا أولوا العقول الذين عقلوا عن الله عزّ وجلّ أمره ونهيه. فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحِجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النّهَى والعقول.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: الحكمة هي السنة؛ كأنه أكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي من سلكه نجا، ومن حاد عنه غوى...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} في الحكمة سبعة تأويلات:... ويحتمل ثامناً: أن تكون الحكمة هنا صلاح الدين وإصلاح الدنيا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحكمة:موافقة أمر الله تعالى، والسَّفَهُ: مخالفة أمره. ويقال الحكمة: شهود الحق، والسَّفَهُ: شهود الغير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وما يذكر إلا أولو الألباب}: يريد الحكماء العلام العمال. والمراد به الحثّ على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق...
يروى عن مقاتل أنه قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه
أحدها: مواعظ القرآن، قال في البقرة {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231] يعني مواعظ القرآن وفي النساء {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} يعني المواعظ، ومثلها في آل عمران
وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، ومنه قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12] وفي لقمان {ولقد آتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] يعني الفهم والعلم وفي الأنعام {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم} [الأنعام: 89]
وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة في النساء {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة} [النساء: 54] يعني النبوة، وفي ص {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 20] يعني النبوة، وفي البقرة {وآتاه الله الملك والحكمة} [البقرة: 251]
ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} [النحل: 125] وفي هذه الآية {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم، ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم، قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا، فقال: {قل متاع الدنيا قليل} [النساء: 77] وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير، والبرهان العقلي أيضا يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار، متناهية المدة، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها، والسعادة الحاصلة منها، وذلك ينبئك على فضيلة العلم.
وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها: إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم: « تخلقوا بأخلاق الله تعالى».
واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله {رب هب لي حكما} [الشعراء: 83] وهو الحكمة النظرية {وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] الحكمة العملية، ونادى موسى عليه السلام فقال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {فاعبدني} وهو الحكمة العملية، وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال: {إني عبد الله} [مريم: 30] الآية، وكل ذلك للحكمة النظرية، ثم قال: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} [مريم: 31] وهو الحكمة العملية، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {واستغفر لذنبك} [غافر: 55] [محمد: 19] وهو الحكمة العملية، وقال في جميع الأنبياء {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا} [النحل: 2] وهو الحكمة النظرية: ثم قال: {فاتقون} وهو الحكمة العملية، والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين، قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم، وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال: أمر حكيم، أي محكم، وهو فعيل بمعنى مفعول، قال الله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى الكلام في الإنفاق والمال المنفق على هذا الأسلوب الحكيم تصريحاً وتلويحاً وختم ذلك بهاتين الصفتين وتضمن ذلك مع التصريح بأنه عليم أنه حكيم أتبع ذلك الوصف بأن من سعته وعلمه وحكمته أنه يهب من صفاته ما يشاء لمن يشاء بأن يؤتيه الحكمة فيوقفه على علم ما خفي من هذه الأمثال المتقنة والأقوال الحسنة تصريحاً وتلويحاً ويوفقه للعمل بذلك إنشاء وتصحيحاً فقال تعالى منبهاً على ترجيح العمل بأمر الرحمن وقبول وعده بأنه على مقتضى العقل والحكمة وأن أمر الشيطان ووعده على وفق الهوى والشهوة...
ولما كان التقدير: فإن ذلك الذي أوتي الحكمة يصير ذا لبّ فيتأهل لأن يتذكر بما يلقيه الله سبحانه وتعالى من كلمته ما بثّ في الأنفس والآفاق من حكمته وصل به قوله: {وما يذكر} أي بكلام الله سبحانه وتعالى حكمه {إلا أولوا الألباب} أي أصحاب العقول الصافية عن دواعي الهوى المنبعثة من التوهمات الحاصلة عن الوسوسة فهم يترقون بالتذكر بأنهم لا حول لهم عن المسببات إلى أسبابها إلى أن يصلوا إلى مسببها فيعرفوه حق معرفته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فسر الأستاذ الإمام الحكمة هنا بالعلم الصحيح يكون صفة محكمة في النفس حاكمة على الإرادة توجهها إلى العمل. ومتى كان العمل صادرا عن العلم الصحيح كان هو العمل الصالح النافع المؤدي إلى السعادة. وكم محصل لصور كثير من المعلومات خازن لها في دماغه ليعرضها في أوقات معلومة لا تفيده هذه الصور التي تسمى علما في التمييز بين الحقائق والأوهام، ولا في التزييل بين الوسوسة والإلهام، لأنها لم تتمكن من النفس تمكنا يجعل لها سلطانا على الإرادة وإنما هي تصورات وخيالات تغيب عند العمل، وتحضر عند المراء والجدل...
قال الأستاذ الإمام ما معناه: والمراد بإيتائه الحكمة من يشاء إعطاؤه آلتها العقل كاملة مع توفيقه لحسن استعمال هذه الآلة في تحصيل العلوم الصحيحة. فالعقل هو الميزان القسط الذي توزن به الخواطر والمدركات، ويميز به بين أنواع التصورات والتصديقات، فمتى رجحت فيه كفة الحقائق طاشت كفة الأوهام، وسهل التمييز بين الوسوسة والإلهام...
أقول:... فالآية بإطلاقها رافعة لشأن الحكمة بأوسع معانيها هادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له...
ثم أقول إيضاحا للمقام: إن الله جعل الخير الكثير مع الحكمة في قرن. فهما لا يفترقان كما لا يفترق المعلول عن علته التامة. فالحكمة هي العلم الصحيح المحرك للإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير. وآلة الحكمة هي العقل السليم المستقل بالحكم في مسائل العلم فهو لا يحكم إل بالدليل فمتى حكم جزم فأمضى وأبرم فكل حكيم عليم عامل مصدر للخير الكثير ولذلك قال تعالى: {وما يذكر إلا أولوا الألباب} أي وقد جرت سنته تعالى بأنه لا يتعظ بالعلم ويتأثر به تأثرا يبعث على العمل إلا أصحاب العقول الخالصة من الشوائب، والقلوب السليمة من المعايب، وهو تذليل يؤيد ما تقدم في تفسير الحكمة. فنسأله تعالى أن يجعلنا من أولي الألباب المؤيدين بالحكمة وفصل الخطاب...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك.
ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة، والعقول التامة، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد، وتركوا طاعة رب العباد، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب، فلهذا قال تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعطي عن سعة، ويعلم ما يوسوس في الصدور، وما يهجس في الضمير، والله لا يعطي المال وحده، ولا يعطي المغفرة وحدها. إنما يعطي (الحكمة) وهي توخي القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا).. أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود؛ وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور؛ وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال.. وذلك خير كثير متنوع الألوان...
{وما يذكر إلا أولوا الألباب}.. فصاحب اللب -وهو العقل- هو الذي يتذكر فلا ينسى، ويتنبه فلا يغفل، ويعتبر فلا يلج في الضلال.. وهذه وظيفة العقل.. وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله؛ وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا...
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه. هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي: رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة..
وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى: أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها، بل يعينه عليها: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.. ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة، وتمنحه ذلك الخير الكثير. وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم}. {يؤتي الحكمة من يشاء...}..
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما: طريق الله. وطريق الشيطان. أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان. ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده.. ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق.. المنهج الذي شرعه الله.. وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان... هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد. كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب. ليست هنالك شبهة ولا غشاوة.. الله. أو الشيطان. منهج الله أو منهج الشيطان. طريق الله أو طريق الشيطان.. ولمن شاء أن يختار.. (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة وإنما هو الهدى أو الضلال. وهو الحق واحد لا يتعدد.. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآدَاب وتلقين الأخلاق الكريمة، مِما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل. فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به، وتنبيههم إلى أنّهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء. فالمعنى: هذا من الحكمة التي آتاكم الله، فهو يؤتى الحكمة من يشاء، وهذا كقوله: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231].
ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعداً إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلاً لفهم الحقائق منقاداً إلى الحق إذا لاح له، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العُتاة، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيراً ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير.
وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال الراغب الأصفهاني في معنى الحكمة: الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، والحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات فالمعطي للحكمة هو الله، ولكنه العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها، فهو لا يعطيها إلا لمن يخلص قلبه، ويسلم وجهه، وإن كان كل شيء بمشيئته سبحانه، إنه على ما يشاء قدير. و الحكمة على هذا التوجيه هي علو بالإنسان، وسمو به، إذ إنه يخلص نفسه من الأهواء المردية، ومن الشهوات الجسدية الأرضية.
ومن المأثور أن الإنسان فيه طبيعتان: طبيعة أرضية منها ينفذ الشيطان، وطبيعة ملكية بها سموه، ومن جانبها تنفذ دعوة الديان، فإن غلبت عليه طبيعته الأرضية غلبت عليه شقوته وكان شرا من الشيطان، وإن غلبت عليه الثانية سمت إنسانيته وكان أفضل من الملك، وتلك هي الحكمة، ولذا قال تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}.
{وما يذكر إلا أولوا الألباب} فاللب معناه العقل، ولكنه لا يستعمل في القرآن إلا في العقول المستقيمة المدركة التي تخلصت وسلمت من شوائب الهوى، ومعايب اللذات فهي العقول المسيطرة التي تستخدم لطلب الحق وتوصل إليه، لا العقول المسخرة للأهواء واللذائذ تتحكم فيها وتسيرها.
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه النافع. فكأن الحق يقول: كل ما أمرتكم به هو عين الحكمة؛ لأني أريد أن أُؤَمّن حياتكم الدنيا فيمن تتركون من الذرية الضعفاء، وأؤمّن لكم سعادة الآخرة. فإن صنع العبد المؤمن ما يأمر به الله فهذا وضع الأشياء في موضعها وهو أخذ بالحكمة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولعلّ المقصود هو أنّ الحكمة أمر حسن بذاته بصرف النظر عن مصدرها ومنشئها. من الملاحظ أنّ الآية تقول: إذا نزلت الحكمة بساحة أحد فقد نزلت بساحته البركة والخير الكثير لا الخير المطلق، لأنّ السعادة والخير المطلق ليسا في العلم وحده، بل العلم أهمّ عامل لهما...
{وما يذّكّر إلاَّ اُولوا الألباب}. «التذكّر» هو حفظ العلوم والمعارف في داخل الروح. والألباب جمع لب وهو قلب كلّ شيء ومركزه، ولهذا قيل العقل اللب. تقول هذه الفقرة من الآية إنّ أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكّرونها. رغم أنّ جميع الناس ذوو عقل عدا المجانين فلا يوصفون جميعاً بأُولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها الساطع.