وإلى جانب الأمر بذكر الله وتسبيحه ، إشعار القلوب برحمة الله ورعايته ، وعنايته بأمر الخلق وإرادة الخير لهم ؛ وهو الغني عنهم ، وهم الفقراء المحاويج ، لرعايته وفضله :
( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ، ليخرجكم من الظلمات إلى النور . وكان بالمؤمنين رحيما ) . .
وتعالى الله وجلت نعمته ، وعظم فضله ، وتضاعفت منته ؛ وهو يذكر هؤلاء العباد الضعاف المحاويج الفانين ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ولا بقاء لهم ولا قرار . يذكرهم ، ويعني بهم ، ويصلي عليهم هو وملائكته ، ويذكرهم بالخير في الملأ الأعلى فيتجاوب الوجود كله بذكرهم ، كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " . .
ألا إنها لعظيمة لا يكاد الإدراك يتصورها . وهو يعلم أن هذه الأرض ومن عليها وما عليها إن هي إلا ذرة صغيرة زهيدة بالقياس إلى تلك الأفلاك الهائلة . وما الأفلاك وما فيها ومن فيها إلا بعض ملك الله الذي قال له : كن . فان !
( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) . .
ونور الله واحد متصل شامل ؛ وما عداه ظلمات تتعدد وتختلف . وما يخرج الناس من نور الله إلا ليعيشوا في ظلما من الظلمات ، أو في الظلمات مجتمعة ؛ وما ينقذهم من الظلام إلا نور الله الذي يشرق في قلوبهم ، ويغمر أرواحهم ، ويهديهم إلى فطرتهم . وهي فطرة هذا الوجود . ورحمة الله بهم وصلاة الملائكة ودعاؤها لهم ، هي التي تخرجهم من الظلمات إلى النور حين تتفتح قلوبهم للإيمان : ( وكان بالمؤمنين رحيما ) . .
وقوله : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ } : هذا تهييج إلى الذكر ، أي : إنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم ، كقوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ . فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 151 ، 152 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومَنْ ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منهم " {[23619]}
والصلاة من الله ثناؤه على العبد عند الملائكة ، حكاه البخاري عن أبي العالية . ورواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عنه .
وقال غيره : الصلاة من الله : الرحمة [ ورد بقوله : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } ] {[23620]}
وقد يقال : لا منافاة بين القولين والله أعلم .
وأما الصلاة من الملائكة ، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار{[23621]} ، كقوله : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } الآية . [ غافر : 7 - 9 ] .
وقوله : { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ، ودعاء ملائكته لكم ، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين . { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا : فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، وبَصّرهم الطريق الذي ضَلَّ عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأشياعهم {[23622]} من الطغام{[23623]} . وأما رحمته بهم في الآخرة : فآمنهم من الفزع الأكبر ، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار ، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن حميد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ، وَسَعَت فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار . قال : فَخَفَّضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " ولا الله{[23624]} ، لا يلقي حبيبه في النار " .
إسناده على شرط الصحيحين ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة{[23625]} ، ولكن في صحيح الإمام البخاري ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها ، فألصقته إلى صدرها ، وأرضعته فقال : " أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟ " قالوا : لا . قال : " فوالله ، لله أرحم بعباده من هذه بولدها " {[23626]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثيرا ، فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك
وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصَيلاً يقول : صلوا له غدوة صلاة الصبح ، وعشيا صلاة العصر .
وقوله : هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ يقول تعالى ذكره : ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير ، وتسبحونه بُكرة وأصيلاً ، إذا أنتم فعلتم ذلك ، الذي يرحمكم ، ويثني عليكم هو ، ويدعو لكم ملائكته . وقيل : إن معنى قوله : يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ يشيع عنكم الذكر الجميل في عباد الله . وقوله : لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ يقول : تدعو ملائكة الله لكم ، فيخرجكم الله من الضلالة إلى الهُدى ، ومن الكفر إلى الإسلام . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْرا كَثِيرا يقول : لا يفِرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدّا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال عذر ، غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدّا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، قال : اذْكُرُوا اللّهَ قِياما وقُعُودا وعلى جُنُوبكم بالليل والنهار في البرّ والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسرّ والعلانية ، وعلى كلّ حال ، وقال : سَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله عزّ وجلّ هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلاً صلاة الغداة ، وصلاة العصر .
وقوله : لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظّلَماتِ إلى النّورِ : أي من الضلالات إلى الهدى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ قال : من الضلالة إلى الهُدى ، قال : والضلالة : الظلمات ، والنور : الهدى .
وقوله : وكانَ بالمُؤْمِنِينَ رَحِيما يقول تعالى ذكره : وكان بالمؤمنين به ورسوله ذا رحمة أن يعذّبهم وهم له مطيعون ، ولأمره متبعون
ثم عدد تعالى على عباده نعمته في الصلاة عليهم وصلاة الله تعالى على العبد هي رحمته له وبركته لديه ونشره عليه الثناء الجميل ، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين ، وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : يا رسول الله كيف صلاة الله على عباده ؟ قال «سبوح قدوس رحمتي سبقت غضبي »{[9533]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : واختلف في تأويل هذا القول ، فقيل إن هذا كله من كلام الله وهي صلاته على عباده ، وقيل سبوح قدوس هو من كلام محمد تقدمت بين يدي نقطة باللفظ الذي هو صلاة الله وهو رحمتي سبقت غضبي ، وقدم عليه السلام هذا من حيث فهم من السائل أنه توهم في صلاة الله تعالى على عباده وجهاً لا يليق بالله عز وجل ، فقدم التنزيه لله والتعظيم بين يدي أخباره ، وقوله { ليخرجكم } أي صلاته وصلاة ملائكته لكي يهديكم وينقذكم من الكفر إلى الإيمان .