( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ) . .
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة ، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب . تنقضي ويعقبها عام رخاء ، يغاث الناس فيه بالزرع والماء ، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا ، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا . .
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف . فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس ، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد .
هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ ، عليه السلام ، من السجن مُعزَّزًا مكرما ، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتَعجَّب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأن هذه { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط اقتضت رؤياك هذه{[15192]} { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ } أي : ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط ، لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها . فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين{[15193]} كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف ، من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : مدة - وقرأ بعضهم : " بعد أَمِةٍ " أي : بعد نسيان ، فقال للملك والذين جمعهم لذلك : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل هذا المنام ، { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن . ومعنى الكلام : فبعثوا{[15194]} فجاء . فقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف ، عليه السلام ، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي{[15195]} يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين ؛ لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر ، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي : مهما استغللتم{[15196]} في هذه السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله ، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه ، إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان ؛ لأن سني{[15197]} الجَدْب يؤكل فيها ما جَمَعَوه في سني{[15198]} الخصب ، وهن السنبلات اليابسات .
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ }
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يأتيهم الغيث ، وهو المَطرُ ، وتُغل البلاد ، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم ، من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل{[15199]} فيه حلب اللبن أيضًا .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يحلبون .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } .
وهذا خبر من يوسف عليه السلام للقوم عما لم يكن في رؤيا ملكهم ، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله دلالة على نبوّته وحجة على صدقة . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : ثم زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها ، فقال : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ .
ويعني بقوله : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ بالمطر والغيث .
وبنحو ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ قال : فيه يغاثون بالمطر .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ قال : بالمطر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلكَ عامٌ قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه ، وكان الله قد علّمه إياه عام فيه يغاث الناس بالمطر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ بالمطر .
وأما قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وفيه يعصرون العنب والسمسم وما أشبه ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : الأعناب والدهن .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ السمسم دهنا ، والعنب خمرا ، والزيتون زيتا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يقول : يصيبهم غيث ، فيعصرون فيه العنب ، ويعصرون فيه الزيت ، ويعصرون من كلّ الثمرات ،
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : يعصرون أعنابهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : العنب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : كانوا يعصرون الأعناب والثمرات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : يعصرون الأعناب والزيتون والثمار من الخصب ، هذا علم آتاه الله يوسف لم يسئل عنه .
وقال آخرون : معنى قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ وفيه يحلبون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني فضالة ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قال : فيه يحلبون .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا الفرج بن فضالة ، عن عليّ بن أبي طلحة ، قال : كان ابن عباس يقرأ : «وَفِيهِ تَعْصِرُونَ » بالتاء ، يعني تحتلبون .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ بالياء ، بمعنى ما وصفت من قول من قال : عصر الأعناب والأدهان . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَفِيهِ تَعْصِرُونَ » بالتاء . وقرأه بعضهم : «وَفِيهِ يَعْصَرُونَ » بمعنى : يُمطرون ، وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها ما عليه من قرّاء الأمصار .
والصواب من القراءة في ذلك أن لقارئه الخيار في قراءته بأيّ القراءتين الأخريين شاء ، إن شاء بالياء ردّا على الخبر به عن الناس ، على معنى : فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أعْنابهم وأدهانهم . وإن شاء بالتاء ردّا على قوله : إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ وخطابا به لمن خاطبه بقوله : يَأْكُلْنَ ما قَدّمْتُمْ لَهُنّ إلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ لأنهما قراءتان مستفيضتان في قِرَاءَة الأمصار باتفاق المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بهما . وذلك أن المخاطبين بذلك كان لا شكّ أنهم أغيثوا وعصروا : أغيث الناس الذين كانوا بناحيتهم وعصروا ، وكذلك كانوا إذا أغيث الناس بناحيتهم وعصروا ، أغيث المخاطبون وعصروا ، فهما متفقتا المعنى ، وإن اختلفت الألفاظ بقراءة ذلك . وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب يوجه معنى قوله : وَفِيهِ يَعْصِرُونَ إلى : وفيه يَنْجون من الجدب والقحط بالغيث ، ويزعم أنه من العَصر والعصر التي بمعنى المنجاة ، من قول أبي زبيد الطائي :
صَادِيا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ *** وَلَقَدْ كانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ
فباتَ وأسْرَى القَوْمُ آخِرَ لَيْلهِمْ *** وَما كانَ وَقّافا بغَيْرِ مُعَصّرِ
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين . وأما القول الذي روى الفَرج بن فضالة عن عليّ بن أبي طلحة ، فقول لا معنى له ، لأنه خلاف المعروف من كلام العرب وخلاف ما يعرف من قول ابن عباس رضي الله عنهما .
{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس } يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث . { وفيه يعصرون } ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار . وقيل يحلبون الضروع . وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي ، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا ، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر . وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب ، أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم .