وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين ، وابتلاء المؤمنين . . لقد قدر الله أن يكون هذا العداء ، وأن يكون هذا الايحاء ، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع . . لحكمة أخرى :
( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون ) أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . . فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا . وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي وينالون بالأذى أتباع كل نبي ويزين بعضهم لبعض القول والفعل فيخضعون للشياطين ، معجبين بزخرفهم الباطل ، معجبين بسلطانهم الخادع . ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد . في ظل ذلك الإيحاء ، وبسبب هذا الإصغاء . .
وهذا أمر أراده الله كذلك وجرى به قدره . لما وراءه من التمحيص والتجربة . ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له ؛ ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس .
ثم لتصلح الحياة بالدفع ؛ ويتميز الحق بالمفاصلة ؛ ويتمحض الخير بالصبر ؛ ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة . . وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله . . أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء . . إنها مشيئة الله ، والله يفعل ما يشاء . .
والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية ، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة . . هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة :
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون . . شياطين الإنس والجن . . تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة . . هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه . . خطة مقررة فيها وسائلها . . ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) . . يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية ؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا ! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله . . إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم ؛ ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً ! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً . ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً !
ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً . . إنه محاط به بمشيئة الله وقدره . . لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره . ومن هنا يبدو هذا الكيد - على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه - مقيداً مغلولاً ! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط . ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع - كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر ، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم . . كلا ! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله . وقدرتهم محدودة بقدر الله . وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله - في حدود الابتلاء - ومرد الأمر كله إلى الله .
ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها . . ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين ، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود ، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أو لا يريده الشياطين ! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق ، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم . أما عداوة الشياطين ، وكيد الشياطين ، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ .
وقوله تعالى : { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } أي : ولتميل إليه - قاله ابن عباس - { أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : قلوبهم وعقولهم وأسماعهم .
وقال السُّدِّي : قلوب الكافرين ، { وَلِيَرْضَوْهُ } أي : يحبوه ويريدوه . وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ . مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ . إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 161 - 163 ] ، وقال تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ . يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8 ، 9 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : { وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا وَلِتَصْغَى إلَيْهِ } .
يقول جلّ ثناؤه : يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيّن من القول بالباطل ، ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء ، فيفتنوهم عن دينهم وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِين لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ . يقول : ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالاَخرة .
وهو من صغوتَ تَصْغَى وتَصْغُو ، والتنزيل جاء بتَصْغَى صَغْوا وصُغُوّا ، وبعض العرب يقول صَغَيْت بالياء حُكي عن بعض بني أسد : صَغَيْتُ إلى حديثه ، فأنا أصْغَى صُغِيّا بالياء ، وذلك إذا ملت ، يقال : صَغْوي معك : إذا كان هواك معه وميلك ، مثل قولهم : ضِلَعي معك ، ويقال : أصغيت الإناء : إذا أملته ليجتمع ما فيه ومنه قول الشاعر :
تَرَى السّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلّ مُحْكَمَةٍ ***زَيْغٌ وَفِيهِ إلى التّشْبِيهِ إصْغاءُ
ويقال للقمر إذا مال للغيوب : صَغَا وأصْغَى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ يقول : تزيغ إليه أفئدة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وَلِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال : لتميل .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ يقول : تميل إليه قلوب الكفار ويحبونه ويرضون به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال : ولتصغى : وليهووا ذلك وليرضوه ، قال : يقول الرجل للمرأة : صَغَيْتُ إليها : هوِيتها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرفُونَ .
يقول تعالى ذكره : وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون .
حُكي عن العرب سماعا منها : خرج يقترف لأهله ، بمعنى يكسب لهم ، ومنه قيل : قارف فلان هذا الأمر : إذا واقعه وعمله . وكان بعضهم يقول : هو التهمة والادّعاء ، يقال للرجل : أنت قرفتني : أي اتهمتني ، ويقال : بئسما اقترفت لنفسك . وقال رؤبة :
أعْيا اقْتِرَافُ الكَذِبِ المَقْرُوفِ ***تَقْوَى التّقِيّ وَعِفّةَ العَفِيفِ
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا قال أهل التأويل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ وليكتسبوا ما هم مكتسبون .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال : ليعملوا ما هم عاملون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال : ليعملوا ما هم عاملون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.