في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

44

بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب - اليهود - دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم ؛ وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم . ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخاص ، الذي عليه دينهم ، والله لا يغفر أن يشرك به . . وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة ؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود :

( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . . وكان أمر الله مفعولا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيمًا ) . .

إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين ؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين :

( يا أيها الذين أوتوا الكتاب ، آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ) . .

فهم أوتوا الكتاب ، فليس غريبا عليهم هذا الهدى . والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم . فليس غريبا عليهم كذلك . وهو مصدق لما معهم . .

ولو كان الإيمان بالبينة . أو بالأسباب الظاهرة . لآمنت يهود أول من آمن . ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح . وكانت لها أحقاد وعناد . وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة . . كما تعبر عنهم التوراة بأنهم :

" شعب صلب الرقبة ! " . ومن ثم لم تؤمن . ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي :

( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . وكان أمر الله مفعولا ) . . وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها ؛ وردها على أدبارها ، دفعها لأن تمشي القهقرى . . وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي ؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم ؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت [ وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت ، وهو محرم عليهم في شريعتهم ] هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير . . كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم ، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم ، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب . والكفر بعد الإيمان ، والهدى بعد الضلال ، طمس للوجوه والبصائر ، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد .

وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك . فهو التهديد الرعيب العنيف ؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة ؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة !

وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد : كعب الأحبار فأسلم :

أخرج ابن أبى حاتم : حدثنا أبى . حدثنا ابن نفيل . حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن جليس ، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني ، قال : كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب . وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله [ ص ] قال : فبعثه إليه ينظر : أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة . فإذا تال يقرأ القرآن يقول : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . . . ) فبادرت الماء فاغتسلت ، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ! ثم أسلمت .

والتعقيب على هذا التهديد :

كان أمر الله مفعولًا . .

فيه توكيد للتهديد ، يناسب كذلك طبيعة اليهود !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

يقول تعالى - آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم{[7655]} الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهددا لهم أن{[7656]} يفعلوا ، بقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } قال بعضهم : معناه : من قبل أن نطمس وجوها . طمسها{[7657]} هو ردها إلى الأدبار ، وجعل أبصارهم من ورائهم . ويحتمل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقي لها سمع ولا بصر ولا أثر ، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار .

قال العوفي عن ابن عباس : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } وطمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين{[7658]} من قفاه .

وكذا قال قتادة ، وعطية العوفي . وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ]{[7659]} } [ يس 8 ، 9 ] إن هذا مثل [ سوء ]{[7660]} ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى .

قال مجاهد : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } يقول : عن صراط الحق ، فنردها{[7661]} على أدبارهم ، أي : في الضلالة .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، والحسن نحو هذا .

قال السدي : { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة .

وقال ابن{[7662]} زيد{[7663]} نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز .

وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية ، قال ابن جرير :

حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم ، قال : ألستم تقرؤون في كتابكم{[7664]} { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ ]{[7665]} أَسْفَارًا } وأنا قد حملت التوراة . قال : فتركه عمر . ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلا من أهلها حزينا ، وهو يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } الآية . قال{[7666]} كعب : يا رب آمنت ، يا رب ، أسلمت ، مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين{[7667]} .

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس{[7668]} عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثه إليه ينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس ، ثم أسلمت{[7669]} .

وقوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } يعني : الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد ، وقد مسخوا قردة وخنازير ، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف .

وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : إذا أمر بأمر ، فإنه لا يخالف ولا يمانع .


[7655]:في أ: "العزيز".
[7656]:في أ: "إن لم يفعلوا".
[7657]:في ر: "وطمسها".
[7658]:في د، ر، أ: "عينان".
[7659]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[7660]:زيادة من أ.
[7661]:في أ: "ورد".
[7662]:في ر، أ: "أبو".
[7663]:في أ: "زيد بن دهم".
[7664]:في أ: "كتاب".
[7665]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى".
[7666]:في أ: "فقال".
[7667]:تفسير الطبري (8/ 446).
[7668]:في ر: "حليس"، وفي أ: "حلس".
[7669]:وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 555) وعزاه لابن أبي حاتم.