( أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه . ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . قل : أفرأيتم ما تدعون من دون الله ، إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل : حسبي الله ، عليه يتوكل المتوكلون . قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذابيخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) . .
هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح ، في بساطته وقوته ، ووضوحه ، وعمقه . كما هو في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة ، وكل قائم بدعوة . وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه ، ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم .
وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من آلهتهم ، ويحذرونه من غضبها ، وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها ، ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى . . .
ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل . فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة . كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن ، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح .
بلى ! فمن ذا يخيفه ، وماذا يخيفه ? إذا كان الله معه ? وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام ? ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده ?
( ويخوفونك بالذين من دونه ) . .
فكيف يخاف ? والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله . وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله ?
إنها قضية بسيطة واضحة ، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن . . إنه الله . ومَن هم دون الله . وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه .
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة . وهو الذي يقضي في العباد قضاءه . في ذوات أنفسهم ، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم :
( ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل ) . . .
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله ، ومن يستحق الهدى فيهديه . فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء .
قوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم . وقرأ أبو جعفر ، و حمزة ، والكسائي : " عباده " بالجمع يعني : الأنبياء عليهم السلام قصدهم قومهم بالسوء ، كما قال :{ وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } ( غافر-5 ) فكفاهم الله شر من عاداهم ، { ويخوفونك بالذين من دونه } وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة معاداة الأوثان ، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون .
قوله تعالى : " أليس الله بكاف عبده " حذفت الياء من " كاف " لسكونها وسكون التنوين بعدها ، وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين ، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل . ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول : كافي . وقراءة العامة " عبده " بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم . وقرأ حمزة والكسائي " عباده " وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم . واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه : " ويخوفونك بالذين من دونه " . ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس ، كقوله عز من قائل : " إن الإنسان لفي خسر " [ العصر :2 ] وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية . والكفاية شر الأصنام ، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام ، حتى قال إبراهيم عليه السلام . " وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله " [ الأنعام : 81 ] . وقال الجرجاني : إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر ، هذا بالثواب وهذا بالعقاب .
قوله تعالى : " ويخوفونك بالذين من دونه " وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان ، فقالوا : أتسب آلهتنا ؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أوتصيبنك بسوء . وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس . فقال له سادنها : أحذركها يا خالد ، فإن لها شدة لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس . وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الذي وجه خالدا . ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم ، كما قال : " أم يقولون نحن جميع منتصر " [ القمر : 44 ] " ومن يضلل الله فما له من هاد " تقدم .
ولما فهم من قوله : " وكذب بالصدق إذ جاءه " أن المشركين يكذبونه ، وكان من طبع الآدمي الاهتمام بمثل ذلك ولا سيما إذا كان المكذب كثيراً وقوياً ، وتقرر أنه سبحانه الحكم العدل بين المتخاصمين وغيرهم في الدنيا والآخرة ، ولزم كل سامع الإقرار بالآخرة ، وبشر المحسنين وحذر المسيئين ، وكان من المعلوم أنهم يحذرونه آلهتهم كما يحذرهم إلهه ، حسن كل الحسن قوله مقراً للكفاية غاية الإقرار ، ومنكراً لنفيها كل الإنكار : { أليس الله } أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال ، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال : { بكاف } وحقق المناط بالإضافة في قوله : { عبده } أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه ، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به ، وهذا لا ينافي السعي في الأسباب مع اعتقاد أنها بيد الله ، فإن شاء ربط بها المسببات ، وإن شاء أعقمها ، بل السعي أكمل ، لأن ترتيب الأسباب بوضع الحكيم ، فالسعي في طرحها ينافي وضع الحكمة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر : عباده - بالجمع بمعنى الرسول وأتباعه .
ولما كان الجواب قطعاً : بلى ، إنه ليكفي من يشاء ، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم ، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم ، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم : { ويخوفونك } أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك . ولما كان الخوف ممن له اختيار ، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته ، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم فضلاً عن العقل ، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم ، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس : { بالذين } وبين حقارتهم بقوله : { من دونه } وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون : إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام
{ أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء }[ هود :54 ] وسيأتي التعبير عنهم بالتانيث زيادة في توبيخهم .
ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل ، وكان التقدير : فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك ، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية كما أن هداه لمن هداه آية ، فقال مخففاً عنه صلى الله عليه وسلم في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية : { ومن يضلل الله } أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره { فما له } لأجل أنه هو الذي أضله { من هاد } أي فخفض من حزنك عليهم