وعندما يبلغ السياق هذا المقطع ، بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود ؛ وكرامة النعيم للمؤمنين ، وهوان شأن الكافرين . يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب ، ويرسم مشهدهم فيه ، وهو مشهد مكروب ذليل :
( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون . يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ) . .
وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم ، ومن التهديد لهم ، ما يثير الخوف والترقب . وفي مشهدهم وهيئتهم وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف . كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم . .
فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه . . وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا . لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها . فها هم أولاء يسارعون اليوم ، ولكن شتان بين يوم ويوم !
{ من الأجداث } القبور . جمع جدث . { سراعا } مسرعين إلى الداعي . { كأنهم إلى نصب يوفضون } النصب – بضمتين - : حجارة كانوا يعظمونها [ آية 3 المائدة ص 183 ] . وقيل : هي الأصنام . " يوفضون " يسرعون . يقال : وفض يفض وفضا ، عدا وأسرع ؛ كأوفض واستوفض . أي يخرجون من القبور يسرعون إلى الداعي مستبقين إليه ؛ كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها .
الأجداث : القبور ، واحدها جَدَث بفتح الجيم والدال .
النصُب : كل ما نصب للعبادة من دون الله ، كالأصنام وما شابهها .
في ذلك اليوم يَخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي كأنهم يهرولون إلى النُصُب التي كانوا يعبدونها في الدنيا ، ولكنّ حالَهم مختلفٌ .
قرأ حفص وابن عامر : نُصُب بضم النون والصاد . وقرأ الباقون : نَصَب بفتح النون والصاد ، وهما لغتان . أو أن النصب بضم النون والصاد جمع نصب بفتح النون وسكون الصاد . والله أعلم .
قوله تعالى : " يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب " " يوم " بدل من " يومهم " الذي قبله ، وقراءة العامة " يخرجون " بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل . وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم " يخرجون " بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول . والأجداث : القبور ، واحدها جدث . وقد مضى في سورة " يس{[15373]} " . " سراعا " حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي ، وهو نصب على الحال " كأنهم إلى نصب يوفضون " قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد . وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد . وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد . والنصب والنصب لغتان مثل الضعف ، والضعف . الجوهري : والنصب ما نصب فعبد من دون الله ، وكذلك النصب بالضم ، وقد يحرك . قال الأعشى :
وذا النصبَ المنصوبَ لا تَنْسُكَنَّهُ *** لعافيةٍ واللهَ ربك فاعْبُدَا
أراد " فأعبدن " فوقف بالألف ، كما تقول : رأيت زيدا . والجمع الأنصاب . وقوله : " وذا النصب " بمعنى إياك وذا النصب . والنصب الشر والبلاء ، ومنه قوله تعالى : " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " [ ص : 41 ] . وقال الأخفش والفراء : النصب جمع النصب مثل رهن ورهن ، والأنصاب جمع نصب ، فهو جمع الجمع . وقيل : النصب والأنصاب واحد . وقيل : النصب جمع نصاب ، هو حجر أو صنم يذبح عليه ، ومنه قوله تعالى : " وما ذبح على النصب{[15374]} " [ المائدة : 3 ] . وقد قيل : نَصْب ونُصْب ونُصُب معنى واحد ، كما قيل عَمْر وعُمْر وعُمُر . ذكره النحاس . قال ابن عباس : " إلى نصب " إلى غاية ، وهي التي تنصب إليها بصرك . وقال الكلبي : إلى شيء منصوب ، عَلَم أو راية . وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم .
قوله تعالى : " يوفضون " يسرعون والإيفاض الإسراع . قال الشاعر :
فوارسُ ذُبْيَان تحت الحدي*** د كالجنّ يوفضن من عبقر
عبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن . قال لبيد :
كهول وشبان كَجِنَّةِ عبقر{[15375]}
وقال الليث : وفضت الإبل تفض وفضا ، وأوفضها صاحبها . فالإيفاض متعد ، والذي في الآية لازم . يقال : وفَضَ وأَوْفَضَ واستوفض بمعنى أسرع .
ولما كان ما بعد النفخة الثانية {[68526]}أعظمه وأهوله{[68527]} ، أبدل منه قوله{[68528]} : { يوم يخرجون } أي هؤلاء الذين يسألون عنه {[68529]}سؤال استهزاء{[68530]} ويستبعدونه ، وقراءة أبي بكر عن{[68531]} عاصم بالبناء للمفعول على طريقة كلام القادرين تدل على أنه مما هو في غاية السهولة { من الأجداث } أي القبور التي صاروا بتغيبهم فيها تحت وقع الحافر{[68532]} والخف ، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل {[68533]}بهم {[68534]}بل هم{[68535]} كلحم في فم ماضغ ، فإن الجدث القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم { سراعاً } أي نحو صوت الداعي .
ولما كانت عادة الإنسان الإسراع إلى ما يقصده من الأعلام المنصوبة ، وعادتهم - هم بالخصوص - المبادرة إلى الأنصاب التي يبعدونها ما هي{[68536]} عليه من الخساسة خفة منهم {[68537]}في العلوم{[68538]} وطيشاً في الحلوم قال : { كأنهم إلى نصب } أي علم منصوب مصدر بمعنى المفعول كما تقول : هذا نصب عيني وضرب الأمير - هذا على قراءة الجماعة بالفتح ، وعلى قراءة ابن عامر {[68539]}وحفص بالضم{[68540]} : إلى علم أو شيء يعبدونه من دون الله على ما فيه من الداء{[68541]} القاتل والبلاء ، أو حجر يذبحون عليه ، قال في الجمع بين العباب والمحكم : النَصْب والنُصْب والنُصُب : الداء والبلاء : والنُصُب كل ما نصب فجعل علماً ، والنَصْب والنَصَب : العلم المنصوب ، والنُصْب والنُصُب : كل ما عبد من دون الله ، والجمع أنصاب ، والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل{[68542]} عليها ويذبح عليها لغير{[68543]} الله ، وانصاب الحرم : حدوده ، وقال أبو حيان{[68544]} : والنصب ما نصب للإنسان{[68545]} فهو يقصده مسرعاً إليه من علم أو بناء أو صنم ، وغلب في الأصنام حتى قيل : الأنصاب { يوفضون * } أي يعجلون عجلة من هو ذاهب إلى ما يسره حتى كأنه يطرد إليه كما كانوا يسرعون إلى أنصابهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.