ثم زوده إلى جانب المعرفة ، بالقدرة على اختيار الطريق ، وبين له الطريق الواصل . ثم تركه ليختاره ، أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله :
( إنا هديناه السبيل : إما شاكرا وإما كفورا ) . .
وعبر عن الهدى بالشكر . لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي ، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئا مذكورا ، فأراد ربه له أن يكون شيئا مذكورا . ووهب له السمع والبصر . وزوده بالقدرة على المعرفة . ثم هداه السبيل . وتركه يختار . . الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة . فإذا لم يشكر فهو الكفور . . بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران .
ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث . ويدرك أنه مخلوق لغاية . وانه مشدود إلى محور . وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها . وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء . فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض ، لا في فترة لعب ولهو وإهمال ! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة ، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة ، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء ! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده ، ومن شعوره بحقيقة وجوده ، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام .
{ إنا هديناه السبيل . . . } أي دللناه على ما يوصله إلى البغية ؛ بإنزال الآيات ، ونصب الدلائل في حالتي شكره وكفره . أو دللناه على الهداية والإسلام ؛ فمنهم مهتد مسلم ، ومنهم ضال كافر . فقوله " إما شاكرا وإما كفورا " حالان من مفعول هدينا . و " إما " للتفصيل ؛ باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات . أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات .
هديناه السبيل : بينّا له طريق الخير والشر .
ثم ذكر أنه بعد أن ركّبه من هذه الأخلاط وأعطاه الحواسّ الظاهرة والباطنةَ ، بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال :
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }
وبعد أن أعطيناه السمعَ والبصر والعقل ، نصبنا له الدلائل في الأنفس والآفاق ، ليتميز شكرُه من كفره ، وطاعته من معصيته .
ثم أرسل إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه{[1304]} فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله .
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهبه منها ، وأخبره بما له إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه ، وإلى كفور لنعمة الله عليه ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فردها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك .
ولما كان كأنه قيل-{[70548]} : هبه خلق هكذا فكان ماذا ؟ قال شفاء{[70549]} لعيّ هذا السؤال وبياناً لنعمة الإمداد : { إنا } أي بما لنا من العظمة { هديناه } أي بينا له لأجل الابتلاء { السبيل } أي الطريق الواضح الذي لا طريق في الحقيقة غيره ، وهو طريق الخير الذي من حاد عنه ضل ، وذلك بما أنزلنا من الكتب وأرسلنا من الرسل ونصبنا من الدلائل في الأنفس والآفاق ، وجعلنا له من البصيرة التي يميز بها بين الصادق والكاذب وكلام الخلق وكلام الخالق والحق والباطل {[70550]}وما أشبهه{[70551]} .
ولما كان الإنسان عند البيان قد كان منه قسمان ، وكان السياق لبيان تعظيمه{[70552]} بأنه خلاصة الكون والمقصود من الخلق ، قال بانياً حالاً من ضميره في " هديناه " مقسماً له مقدماً القسم الذي أتم عليه بالبيان نعمة الهداية بخلق الإيمان ، لأن ذلك أنسب بذكر تشريفه للإنسان ، بجعله خلاصة الوجود وبقوله : " إن رحمتي سبقت غضبي " في سياق ابتداء الخلق ، معبراً باسم الفاعل{[70553]} الخالي عن المبالغة ، لأنه لا يقدر أحد أن يشكر جميع النعم ، فلا يسمى شكوراً{[70554]} إلا بتفضل من-{[70555]} ربه عليه : { إما شاكراً } أي لإنعام ربه عليه .
ولما كان الإنسان ، لما له من النقصان ، لا ينفك غالباً عن كفر ما ، أتى بصيغة المبالغة تنبيهاً له على ذلك معرفاً له أنه{[70556]} لا يأخذه إلاّ بالتوغل{[70557]} فيه ليعرف نعمة الحلم عنه فيحمله الخجل على الإقبال على-{[70558]} من يرضى منه بقليل الشكر ، ويحتمل أن يفهم ذلك أن من كفر نعمة واحدة فقد كفر الجميع فصار بليغ الكفر فقال : { وإما كفوراً } أي بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب وعبادة الغير والمعاندة{[70559]} فإحسانه غير موف وإساءته مفرطة ، وبدأ بالشكر لأنه{[70560]} الأصل ، روى الشيخان{[70561]} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه-{[70562]} " الحديث ، ورواه أحمد بن منيع عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه{[70563]} الإمام أحمد{[70564]} عن جابر رضي الله عنه ولفظه : " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً " رواه الإمام أحمد أيضاً وأبو يعلى{[70565]} عن الأسود بن سريع رضي الله عنه .
قوله : { إنا هديناه السبيل } يعني إنا بينا ووضحنا له طريق الحق والصواب . أو بينا له طريق الخير وطريق الشر ليهتدي وينجو فلا يضل أو يتعثر .
قوله : { إما شاكرا وإما كفورا } شاكرا وكفورا ، منصوبان على الحال من الهاء في { هديناه } {[4709]} والمعنى : إما شاكرا لأنعم الله بطاعته والإذعان لجلاله بالخضوع والاستسلام ، فهو بذلك سعيد . وإما كفورا جاحدا لأنعم الله بعصيانه وفسقه عن أمره ، فهو بذلك شقي خاسر . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها " {[4710]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.