يقسم بالسماء ونجمها الثاقب : أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) . . وفي التعبير بصيغته هذه معنى التوكيد الشديد . . ما من نفس إلا عليها حافظ . يراقبها ، ويحصي عليها ، ويحفظ عنها ، وهو موكل بها بأمر الله . ويعين النفس لأنها مستودع الأسرار والأفكار . وهي التي يناط بها العمل والجزاء .
ليست هنالك فوضى إذن ولا هيصة ! والناس ليسوا مطلقين في الأرض هكذا بلا حارس . ولا مهملين في شعابها بلا حافظ ، ولا متروكين يفعلون كيف شاءوا بلا رقيب . إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر ، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر .
ويلقي النص إيحاءه الرهيب حيث تحس النفس أنها ليست أبدا في خلوة - وإن خلت - فهناك الحافظ الرقيب عليها حين تنفرد من كل رقيب ، وتتخفي عن كل عين ، وتأمن من كل طارق . هنالك الحافظ الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور . كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر . . وصنعة الله واحدة متناسقة في الأنفس وفي الآفاق .
وجواب القسم يقوله : { إن كل نفس . . . } أي ما كل نفس إلا عليها مهيمن قائم عليها في إيجادها وبقائها ؛ وهو الله سبحانه . أو من يحفظ عملها من الملائكة ، ويحصى عليها ما تكتسب من خير أو شر . وعدي " حافظ " بعلى لتضمنه معنى القيام والإحصاء . وقرئ " لما " بالتخفيف ، " وما " زائدة للتوكيد ، " وإن " مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ؛ أي إنه .
ثم بين الذي حلف عليه فقال : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } أي إن كلَّ نفس عليها رقيبٌ يحفظها ويدير شؤونها في جميع أطوارها ، ويُحصي عليها أعمالها .
لَمَّا ، هنا بمعنى إلاّ ، يعني أن كل نفس عليها حافظ . وفي قراءة من قرأها بالتخفيف أنّ كل نفس لَما عليها حافظ ، يعني : أن كل نفس لَعَلَيْها حافظ ، وهما قراءتان سَبْعِيَّتان .
وهذا المعنى كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الإنفطار : 10-12 ] .
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر : إن كل نفسٍ لمّا عليها حافظ ، بتشديد لمّا ، وهي بمعنى إلاّ . وقرأ الباقون : لما بغير تشديد وهي بمعنى اللام : لَعليها حافظ .
ولما ذكر الذي دل به على حفظ القرآن عن التلبيس وعلى حفظ الإنسان ، ذكر جوابه في حفظ النفوس التي جعل فيها قابلية لحفظ القرآن في الصدور ، ودل على حفظ ما خلق لأجلها من هذه الأشياء المقسم بها على حفظ الإنسان لأنها إذا كانت محفوظة عن أدنى زيغ وهي مخلوقة لتدبير{[72608]} مصالحه فما{[72609]} الظن به ؟ فقال مؤكداً غاية التأكيد-{[72610]} لما للكفرة{[72611]} من إنكار ذلك والطعن فيه-{[72612]} { إن } بالتخفيف من الثقيلة في قراءة الجمهور أي-{[72613]} أن الشأن{[72614]} { كل نفس } أي من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس { لما عليها } أي بخصوصها {[72615]}لا مشارك لها في ذاتها{[72616]} { حافظ * } أي رقيب عتيد لا يفارقها ، والمراد به الجنس من الملائكة ، فبعضهم لحفظها من الآفات ، وبعضهم لحفظها من الوساوس{[72617]} ، وبعضهم لحفظ أعمالها وإحصائها بالكتابة ، وبعضهم لحفظ ما كتب لها من رزق وأجل و{[72618]}شقاوة أو{[72619]} سعادة {[72620]}ومشي ؟ ونكاح وسفر وإقامة{[72621]} ، فلا يتعدى شيئاً{[72622]} من ذلك {[72623]}نحن قسمنا نحن قدرنا{[72624]} ، فإن قلت : إن الحافظ الملائكة ، صدقت ، وإن قلت : إنه الله ، صدقت ، لأنه الآمر لهم والمقدر على الحفظ{[72625]} ، والحافظ لهم-{[72626]} من الوهن والزيغ ، فهو الحافظ الحقيقي ، واللام في هذه القراءة هي الفارقة بين المخففة والنافية " وما " مؤكدة بنفي صدر-{[72627]} ما أثبتته الجملة ، " وحافظ " خبر " إن " ويجوز أن يكون الظرف الخبر ، و " حافظ " مرتفع به ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد " لما " على أنها بمعنى " إلا " و " إن " نافية بمعنى " ما " ، والمستثنى منه " كل نفس " وخبر النافية محذوف تقديره : كائنة أو موجودة أو نحوهما-{[72628]} ، والمستثنى " نفس " موصوفة ب " عليها حافظ " ويحتمل أن يكون حالاً فمحله يحتمل الرفع بأنه خبر النافي في-{[72629]} هذا الاستثناء المفرغ عند{[72630]} بني تميم ، والنصب بأنه خبر {[72631]}عند غيرهم{[72632]} ، أو حال من " نفس " ، لأنها عامة ، والتقدير : ما كل نفس موجودة إلا نفس كائناً أو كائن عليها حافظ ، والنسبة بين مفهومي القراءتين{[72633]} أن المشدد أخص لأنها دائمة مطلقة ، والمخففة مطلقة عامة ، ولا يظن أن المشددة غير مساوية للمخففة ، فضلاً عن أن تكون أخص لأن حرف النفي دخل على " كل " وهو من أسوار السلب الجزئي كما تقرر{[72634]} في موضعه فينحل إلى أن بعض النفوس ليس إلا عليها حافظ وإنما-{[72635]} كان لا يظن ذلك لأنها تنحل لما فيها من الحصر المتضمن للنفي والإثبات إلى جملتين ، إحداهما إثبات الحفظ-{[72636]} للنفس{[72637]} الموصوفة والأخرى سلب{[72638]} نقيضه عنها ، لأنه من قصر الموصوف على الصفة .
ونقيض الكلية الموجبة الجزئية السالبة أي ليس كل نفس عليها حافظ-{[72639]} والسالبة الجزئية أعم من السالبة الكلية ، فإذا نفيتها قلت : ليس ليس كل نفس عليها حافظ فهو سلب السلب الجزئي ، وإذا سلب السلب الجزئي سلب الكلي-{[72640]} لما تبين أنه أخف . وإذا{[72641]} انتفى الأعم انتفى الأخص فلا شيء من الأنفس ليس عليها حافظ ، فانحل الكلام إلى : لا نفس كائنة إلا نفس عليها حافظ ، وإن كان لفظ " ليس كل " من أسوار الجزئية لما مضى ، فصارت الآية على قراءة التشديد مركبة من مطلقة عامة هي " كل نفس عليها{[72642]} حافظ " بالفعل .
ومن سلب نقيضها وهو{[72643]} الدائمة المطلقة-{[72644]} الذي هو " دائماً ليس كل نفس عليها حافظ-{[72645]} " ورفعه بأن يقال : ليس دائماً ليس كل نفس ليس عليها حافظ ، أي ليس دائماً كل نفس ليس عليها حافظ ، و{[72646]}ذلك على سبيل الحصر وقصر الموصوف على الصفة ، معناه أن الموصوف لا يتعدى صفته التي قصر عليها ، فأقل الأمور أن لا يتجاوزها إلى عدم الحفظ ، وذلك معنى الدائمة المطلقة وهو الحكم بثبوت المحمول للموضوع ما دام ذات الموضوع موجودة ، وهي على قراءة التخفيف مطلقة عامة أي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع بالفعل وهو الجزء الأول مما{[72647]} انحلت إليه قراءة التشديد ، فمفهوم الآية في قراءة التشديد أخص منه في قراءة التخفيف ، لأن كل دائم كائن بالفعل ، ولا ينعكس - هذا إذا نظرنا إلى نفس المفهوم من اللفظ مع قطع النظر{[72648]} عن الدلالة الخارجية ، وأما بالنظر إلى نفس الأمر فالجهة الدوام فلا فرق ، غير أنه دل عليها باللفظ في قراءة التشديد دون قراءة التخفيف والله تعالى أعلم .
وقال الإمام{[72649]} أبو جعفر ابن الزبير رحمه الله تعالى : لما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البروج
{ والله على كل شيء شهيد }[ البروج : 9 ]
{ والله من ورائهم محيط }[ البروج : 20 ] وكان {[72650]}في ذلك{[72651]} تعريف العباد بأنه سبحانه وتعالى {[72652]}لا يغيب عنه{[72653]} شيء ولا يفوته {[72654]}شيء ولا ينجو منه{[72655]} هارب ، أردف ذلك بتفصيل يزيد {[72656]}إيضاح ذلك{[72657]} التعريف الجملي من شهادته سبحانه وتعالى على كل شيء وإحاطته به{[72658]} فقال تعالى { إن كل نفس لما عليها حافظ } [ الطارق : 4 ] فأعلم الله سبحانه وتعالى بخصوص كل نفس ممن يحفظ أنفاسها " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ليعلم العبد أنه ليس بمهمل ولا مضيع ، وهو سبحانه وتعالى{[72659]} الغني عن كتب الحفظة وإحصائهم {[72660]}وشهادة الشهود من الأعضاء وغيرهم ، وإنما كان ذلك لإظهار عدله سبحانه وتعالى
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة }[ النساء : 40 ] ولا أقل من المثقال{[72661]} ، ولكن هي سنته حتى لا يبقى لأحد حجة ولا تعلق ، وأقسم سبحانه وتعالى على ذلك تحقيقاً وتأكيداً يناسب القصد المذكور - انتهى .