مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِن كُلُّ نَفۡسٖ لَّمَّا عَلَيۡهَا حَافِظٞ} (4)

واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه : { إن كل نفس لما عليها حافظ } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { لما } قراءتان ( إحداهما ) : قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع والكسائي ، وهي بتخفيف الميم ( والثانية ) : قراءة عاصم وحمزة والنخعي بتشديد الميم .

قال أبو علي الفاسي : من خفف كانت { إن } عنده المخففة من الثقيلة ، واللام في { لما } هي التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من إن النافية ، وما صلة كالتي في قوله : { فبما رحمة من الله } { وعما قليل } وتكون { إن } متلقية للقسم ، كما تتلقاه مثقلة . وأما من ثقل فتكون { إن } عنده النافية ، كالتي في قوله : { فيما إن مكناكم } و{ لما } في معنى ألا ، قال : وتستعمل { لما } بمعنى ألا في موضعين ( أحدهما ) : هذا ( والآخر ) : في باب القسم ، تقول : سألتك بالله لما فعلت ، بمعنى ألا فعلت . وروى عن الأخفش والكسائي وأبي عبيدة أنهم قالوا : لم توجد لما بمعنى ألا في كلام العرب . قال ابن عون : قرأت عند ابن سيرين ( لما ) بالتشديد ، فأنكره وقال : سبحان الله ، سبحان الله ، وزعم العتبي أن { لما } بمعنى ألا ، مع أن الخفيفة التي تكون بمعنى ما موجودة في لغة هذيل .

المسألة الثانية : ليس في الآية بيان أن هذا الحافظ من هو ، وليس فيها أيضا بيان أن الحافظ يحفظ النفس عماذا . أما ( الأول ) : ففيه قولان : ( الأول ) : قول بعض المفسرين : أن ذلك الحافظ هو الله تعالى . أما في التحقيق فلأن كل وجود سوى الله ممكن ، وكل ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح وينتهي ذلك إلى الواجب لذاته ، فهو سبحانه القيوم الذي بحفظه وإبقائه تبقى الموجودات ، ثم إنه تعالى بين هذا المعنى في السموات والأرض على العموم في قوله : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } وبينه في هذه الآية في حق الإنسان على الخصوص وحقيقة الكلام ترجع إلى أنه تعالى أقسم أن كل ما سواه ، فإنه ممكن الوجود محدث محتاج مخلوق مربوب هذا إذا حملنا النفس على مطلق الذات ، أما إذا حملناها على النفس المتنفسة وهي النفس الحيوانية أمكن أن يكون المراد من كونه تعالى حافظا لها كونه تعالى عالما بأحوالها وموصلا إليها جميع منافعها ودافعا عنها جميع مضارها .

والقول الثاني : أن ذلك الحافظ هم الملائكة كما قال : { ويرسل عليكم حفظة } وقال : { عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وقال : { وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين } وقال : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } .

وأما البحث الثاني : وهو أنه ما الذي يحفظه هذا الحافظ ؟ ففيه وجوه ( أحدها ) : أن هؤلاء الحفظة يكتبون عليه أعماله دقيقها وجليلها حتى تخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( وثانيها ) : { إن كل نفس لما عليها حافظ } يحفظ عملها ورزقها وأجلها ، فإذا استوفى الإنسان أجله ورزقه قبضه إلى ربه ، وحاصله يرجع إلى وعيد الكفار وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : { فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا } ثم ينصرفون عن قريب إلى الآخرة فيجازون بما يستحقونه ( وثالثها ) : إن كل نفس لما عليها حافظ ، يحفظها من المعاطب والمهالك فلا يصيبها إلا ما قدر الله عليها ( ورابعها ) قال الفراء : إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها حتى يسلمها إلى المقابر ، وهذا قول الكلبي .