( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) .
إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر ، ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض ، حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها . والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة .
فهذا الماء النازل من السماء . . ما هو وكيف نزل ? إننا نمر بهذه الخارقة سراعاً لطول الألفة وطول التكرار . إن خلق الماء في ذاته خارقة . ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة ، فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما ، وبوجود الماء من هذا الاتحاد . ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض . ولولا الماء ما وجدت حياة . إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة . والله من وراء هذا التدبير ، وكله مما صنعت يداه . . ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة ، ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله .
ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء :
سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض ؛ أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية ، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيوناً ، أو يتكشف آباراً . ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً !
( ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ) . .
والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ؛ خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً . ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها ؛ وتزيح أثقال الركام من فوقها ؛ وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية ؛ وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً . . هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى ؛ وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة . بل في النبتة الواحدة . بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة ؛ يُشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً !
هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة ، يبلغ تمامه ، ويستوفي أيامه :
وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود ، وفي نظام الكون ، وفي مراحل الحياة ، فينضج للحصاد :
وقد استوفى أجله ، وأدى دوره ، وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة . .
( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . .
الذين يتدبرون فيذكرون ، وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك .
{ ألم تر . . . } تمثيل للحياة الدنيا – في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها – بما ذكر من أحوال الزرع ؛ تحذيرا من الاغترار بها ، وتنفيرا من التشبث بأذيالها ، بعد أن وصفت الجنة بما يرغّب فيها ويشوّق إليها . { فسلكه ينابيع } أدخله في عيون ومسارب في الأرض . جمع ينبوع وهو المنبع والمجرى .
{ ثم يهيج } ييبس ويجف ؛ من الهيج بمعنى اليبس والجفاف . يقال : هاج النبت هيجا وهياجا ،
يبس واصفر . أو يثور ؛ من الهيج بمعنى الحركة . يقال : هاج الشيء يهيج ، ثار لمشقة أو ضرر .
{ ثم يجعله حطاما } فتاتا متكسرا . يقال : حطم الشيء حطما – من باب تعب – إذا تكسر . وحطمته حطما – من باب ضرب – كسرته . وتحطّم العود : إذا تفتّت من اليبس .
مختلفا ألوانه : مختلفا أنواعه .
وبعد ذلك أعقب بذكر صفات الدنيا وأنهار زائلة مهما طال عمر الإنسان فيها ، تحذيراً من الاغترار بما فيها من متعة ، فمثّل حالها بحال نباتٍ يُسقى بماء المطر فيخرج به زرعٌ مختلف الأصناف والأنواع والألوان . بعد ذلك يجفّ الزرع ويصير حطاماً يابسا ، فما أسرع زواله ! .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب } : إن في هذا الذي بينّاه لَذكرى لأصحاب العقول المدركة فلا تغتروا بها وببهجتها .
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه } : أدخل ذلك الماء { ينابيع في الأرض } : وهي المواضع التي ينبع منها الماء وكل ماء في الأرض فمن السماء نزل { ثم يخرج به } بذلك الماء { زرعا مختلفا ألوانه } خضرة وحمرة وصفرة { ثم يهيج } ييبس { فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما } دقاقا فتاتا { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } يذكرون ما لهم من الدلالة في هذا على توحيد الله تعالى وقدرته .
قوله تعالى : " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء " أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق ، والتمييز بين المؤمن والكافر ، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء . " أنزل من السماء " أي من السحاب " ماء " أي المطر " فسلكه ينابيع في الأرض " أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها ، كما قال : " فأسكناه في الأرض " [ المؤمنون : 18 ] . " ينابيع " جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض . النحاس : وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر :
يَنْبَاعُ من ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا ، نبوعا خرج . والينبوع عين الماء والجمع الينابيع . وقد مضى في " سبحان " . " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " ثم يخرج به أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض " زرعا " هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة ، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا . قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة ، ثم تقسم منها العيون والركايا . " ثم يهيج " أي ييبس . " فتراه " أي بعد خضرته " مصفرا " قال المبرد قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى . قال : كذلك هاج النبت . قال : وكذلك قال غير الأصمعي . وقال الجوهري : هاج النبت هياجا أي يبس . وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر ، وأهاجت الريح النبت أيبسته ، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات ، وهاج هائجه أي ثار غضبه ، وهدأ هائجه أي سكنت فورته . " ثم يجعله حطاما " أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس . والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة . وقيل : هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض ، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض ، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا ، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع . وقيل : هو مثل ضربه الله للدنيا ؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها . " إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب " .