( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا : هذا عارض ممطرنا . بل هو ما استعجلتم به : ريح فيها عذاب أليم ، تدمر كل شيء بأمر ربها ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . كذلك نجزي القوم المجرمين ) . .
وتقول الروايات : إنه أصاب القوم حر شديد ، واحتبس عنهم المطر ، ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف . ثم ساق الله إليهم سحابة ، ففرحوا بها فرحا شديدا ، وخرجوا يستقبلونها في الأودية ، وهم يحسبون فيها الماء : ( قالوا هذا عارض ممطرنا ) . .
وجاءهم الرد بلسان الواقع : ( بل هو ما استعجلتم به : ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها ) . . وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى . كما جاء في صفتها : ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه سحابا عارضا في ناحية من نواحي السماء "مُسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ "والعرب تسمي السحاب الذي يُرَى في بعض أقطار السماء عشيا، ثم يصبح من الغد قد استوى، وحبا بعضه إلى بعض عارضا، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ... "قالُوا هَذَا عارِضٌ مِمْطِرُنا" ظنا منهم برؤيتهم إياه أن غيثا قد أتاهم يَحيون به، فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يعدنا، وهو الغيث... وذُكر لنا أنهم حبس عنهم المطر زمانا، فلما رأوا العذاب مقبلاً، "قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا"... يقول الله عزّ وجلّ: "بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ ألِيمٌ".
وقوله: "بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ" يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه صلى الله عليه وسلم هود لقومه لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب، قد عرض لهم في السماء هذا عارض ممطرنا نحيا به، ما هو بعارض غيث، ولكنه عارض عذاب لكم، "بل هو ما استعجلتم به": أي هو العذاب الذي استعجلتم به، فقلتم: "ائْتِنا بِمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ"، "رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ". والريح مكرّرة على ما في قوله: "هُوَ ما اسْتَعْجَلْتمْ بِهِ" كأنه قيل: بل هو ريح فيها عذاب أليم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل:
أحدها: لأنه أخذ في عرض السماء...
الثاني: لأنه يملأ آفاق السماء...
والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فلما رأوه} أي العذاب الذي يعدهم به {عارضاً} أي سحاباً أسود بارزاً في الأفق ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر، حال كونه قاصداً إليهم- {مستقبل أوديتهم} أي طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك، وهو وصف لعارضاً... {قالوا} على عادة جهلهم مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل، لأن جهلهم به استمر حتى كاد أن يواقعهم: {هذا عارض} أي سحاب معترض في عرض السماء أي ناحيتها {ممطرنا} لكونهم رأوه أسود مرتاداً فظنوه ممتلئاً ماء يغاثون به بعد طول القحط وإرسال رسلهم إلى مكة المشرفة ليدعوا لهم هنالك الله الذي استخفوا به بالقدح في ملكه بأن أشركوا به من هو دونهم، علماً منهم بأن شركاءهم لا تغني عنهم في الإمطار شيئاً، غافلين عن ذنوبهم الموجبة لعذابهم، فلذلك قال الله تعالى مضرباً عن كلامهم، والظاهر أنه حكاية لقول هود عليه الصلاة والسلام في جواب كلامهم: {بل هو} أي هذا العارض الذي ترونه {ما استعجلتم به} أي طلبتم العجلة في إتيانه إليكم من العذاب. ولما اشتد تشوف السامع إلى معرفته قال: {ريح} أي ركمت هذا السحاب الذي رأيتموه {فيها عذاب أليم} أي شديد الإيلام، كانت تحمل الظعينة في الجو تحملها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة، وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ثم تقذف بهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{هذا عارض ممطرنا} يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر...
لاستقبال: التوجه قبالة الشيء، أي سائراً نحو أوديتهم. وأودية: جمع وادٍ جمعاً نادراً مثل نادٍ وأندية. ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقاً أغلبياً لأنّ غالب منازلهم في السهول ومقارّ المياه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} فقد جاء إليهم في صورة سحاب يعرض في الأفق ثم يمتد في الفضاء المطلّ عليهم، ليستقبل الوديان التي كانت تنتظر المطر الذي يملأ الينابيع ويروي الأرض، ف {قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} فاستقبلوه باستبشار، كما يستقبل الناس العطشى المطر القادم إليهم عبر السحاب، ولكن المسألة ليست كذلك {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ*}
" فلما رأوه عارضا " قال المبرد : الضمير في " رأوه " يعود إلى غير مذكور ، وبينه قوله : " عارضا " فالضمير يعود إلى السحاب ، أي فلما رأوا السحاب عارضا . ف " عارضا " نصب على التكرير ، سمي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء . وقيل : نصب على الحال . وقيل : يرجع الضمير إلى قوله : " فأتنا بما تعدنا " فلما رأوه حسبوه سحابا يمطرهم ، وكان المطر قد أبطأ عنهم ، فلما رأوه " مستقبل أوديتهم " استبشروا . وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا ، قاله ابن عباس وغيره . " قالوا هذا عارض ممطرنا " قال الجوهري : والعارض السحاب يعترض في الأفق ، ومنه قوله تعالى : " هذا عارض ممطرنا " أي ممطر لنا ، لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة . والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الأفعال دون غيرها . قال جرير :
يا رُبَّ غابِطنا لو كان يطلبكم *** لاقى مباعدةً منكم وحرمانا
ولا يجوز أن يقال : هذا رجل غلامنا . وقال أعرابي بعد الفطر : رب صائمة لن تصومه ، وقائمة لن تقومه ، فجعله نعتا للنكرة وأضافه إلى المعرفة .
قلت : قوله : ( لا يجوز أن يكون صفة لعارض ) خلاف قول النحويين ، والإضافة في تقدير الانفصال ، فهي إضافة لفظية لا حقيقية ، لأنها لم تفد الأول تعريفا ، بل الاسم نكرة على حاله ، فلذلك جرى نعتا على النكرة . هذا قول النحويين في الآية والبيت . ونعت النكرة نكرة . و " رب " لا تدخل إلا على النكرة . " بل هو " أي قال هود لهم . والدليل عليه قراءة من قرأ " قال هود بل هو " وقرئ " قل بل ما استعجلتم به هي ريح " أي قال الله : قل بل هو ما استعجلتم به ، ويعني قولهم : " فأتنا بما تعدنا " ثم بين ما هو فقال : " ريح فيها عذاب أليم " والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه ، وخرج هود من بين أظهرهم ، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظعينة{[13861]} فترفعها كأنها جرادة ، ثم تضرب بها الصخور . قال ابن عباس : أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم ، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما{[13862]} ، ولهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشف عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر ، فهي التي قال الله تعالى فيها : " تدمر كل شيء بأمر ربها " أي كل شيء مرت عليه من رجال عاد وأموالها . قال ابن عباس : أي كل شيء بعثت إليه .
ولما تسبب{[58959]} عن قولهم هذا إتيان العذاب فأتاهم-{[58960]} في سحاب أسود{[58961]} ، {[58962]}استمروا على جهلهم{[58963]} وعادتهم في الأمن وعدم تجويز الانتقام ، وكأن إتيانه كان قريباً من استعجالهم به ، فلذلك أتى بالفاء في قوله مسبباً {[58964]}عن تكذيبهم{[58965]} مبيناً لعظيم جهلهم بجهلهم في المحسوسات ، مفصلاً لما كان من حالهم عند رؤية البأس : { فلما رأوه } أي العذاب الذي يعدهم به { عارضاً } أي سحاباً أسود بارزاً في الأفق ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر ، حال كونه قاصداً إليهم-{[58966]} { مستقبل أوديتهم } أي طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك ، وهو وصف لعارضاً{[58967]} فهو نكرة إضافته{[58968]} لفظية وإن كان مضافاً{[58969]} إلى معرفة ، وكذا " ممطرنا " { قالوا } على عادة جهلهم مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية{[58970]} الجهل ، لأن جهلهم به استمر حتى كاد أن يواقعهم{[58971]} : { هذا عارض } أي سحاب معترض في عرض السماء أي ناحيتها { ممطرنا } لكونهم{[58972]} رأوه أسود مرتاداً فظنوه ممتلئاً ماء يغاثون{[58973]} به بعد طول القحط وإرسال رسلهم إلى مكة المشرفة ليدعوا لهم هنالك الله الذي استخفوا به بالقدح في ملكه بأن أشركوا به من هو دونهم ، علماً منهم بأن شركاءهم لا تغني عنهم في الإمطار شيئاً ، غافلين عن ذنوبهم الموجبة لعذابهم ، فلذلك قال الله تعالى مضرباً{[58974]} عن كلامهم ، والظاهر أنه حكاية لقول هود عليه الصلاة والسلام في جواب كلامهم : { بل هو } أي هذا العارض الذي ترونه { ما استعجلتم به } أي طلبتم العجلة في إتيانه إليكم من العذاب .
ولما اشتد تشوف السامع {[58975]}إلى معرفته{[58976]} قال{[58977]} : { ريح } أي ركمت هذا السحاب الذي رأيتموه { فيها عذاب أليم * } أي شديد الإيلام ، كانت تحمل الظعينة في الجو تحملها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة ، وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ثم تقذف بهم