سورة المرسلات مكية وآياتها خمسون
هذه السورة حادة الملامح ، عنيفة المشاهد ، شديدة الإيقاع ، كأنها سياط لاذعة من نار . وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة ، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات ، تنفذ إليه كالسهام المسنونة !
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة ، وحقائق الكون والنفس ، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض . وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار : ( ويل يومئذ للمكذبين ) !
ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة . وهو لازمة الإيقاع فيها . وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة ، ومشاهدها العنيفة ، وإيقاعها الشديد .
وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة " الرحمن " عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . . كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة " القمر " عقب كل حلقة من حلقات العذاب : ( فكيف كان عذابي ونذر ? ) . . وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة ، وطعما مميزا . . حادا . .
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة ، متعددة القوافي . كل مقطع بقافية . ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة . ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص ، وعنفها الخاص . واحدة إثر واحدة . وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر ، بنفس العنف وبنفس الشدة .
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة : ( والمرسلات عرفا . فالعاصفات عصفا . والناشرات نشرا فالفارقات فرقا . فالملقيات ذكرا ، عذرا أو نذرا ) . . وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام .
وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها . . وهذا نموذج منها ، كما اختار إطارا من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في " سورة الضحى " وإطارا من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة " والعاديات " . . وغيرها كثير .
وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع ، يمثل جولة أو رحلة في عالم ، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات . . أعرض بكثير جدا من مساحة العبارات والكلمات ، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى !
والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل . وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض ، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر : ( فإذا النجوم طمست . وإذا السماء فرجت . وإذا الجبال نسفت . وإذا الرسل أقتت . لأي يوم أجلت ? ليوم الفصل . وما أدراك ما يوم الفصل ? ويل يومئذ للمكذبين ! ) .
والجولة الثانية مع مصارع الغابرين ، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين : ( ألم نهلك الأولين ? ثم نتبعهم الآخرين ? كذلك نفعل بالمجرمين . ويل يومئذ للمكذبين ! ) . .
والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير : ( ألم نخلقكم من ماء مهين ? فجعلناه في قرار مكين ? إلى قدر معلوم ? فقدرنا فنعم القادرون . ويل يومئذ للمكذبين ! ) . .
والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا ، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي : ( ألم نجعل الأرض كفاتا ? أحياء وأمواتا ، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ? ويل يومئذ للمكذبين ! ) . .
والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون . انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ! لا ظليل ولا يغني من اللهب . إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر . ويل يومئذ للمكذبين ! ) . .
والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين ، ومزيد من التأنيب والترذيل : ( هذا يوم لا ينطقون ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون . ويل يومئذ للمكذبين ! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين . فإن كان لكم كيد فكيدون . ويل يومئذ للمكذبين ! ) . .
والجولة الثامنة مع المتقين ، وما أعد لهم من نعيم : ( إن المتقين في ظلال وعيون ، وفواكه مما يشتهون . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين . ويل يومئذ للمكذبين ! ) . .
والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب : ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون . ويل يومئذ للمكذبين ! ) . .
والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب : ( وإذا قيل لهم : اركعوا لا يركعون . ويل يومئذ للمكذبين ! ) .
والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات : ( فبأي حديث بعده يؤمنون ? ) . .
وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع ، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها . فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن - والمكية منها بوجه خاص - ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة ، وفي أضواء متعددة ، وبطعوم ومذاقات متعددة ، وفق الحالات النفسية التي تواجهها ، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله ، فتبدو في كل حالةجديدة ، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة .
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم . وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد . كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله . ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة . حادة الملامح . لاذعة المذاق . لاهثة الإيقاع !
والمرسلات عرفا . فالعاصفات عصفا . والناشرات نشرا . فالفارقات فرقا . فالملقيات ذكرا : عذرا أو نذرا . . إن ما توعدون لواقع . .
القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها ؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى الموكدات في مواضع منه شتى . وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم ، ، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها ، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعا . فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية ، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية . وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة ، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعا . . ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول .
والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع . وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب ، وقواه المكنونة ، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر . وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها . فقال بعضهم : هي الرياح إطلاقا . وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقا . وقال بعضهم : إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة . . مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها . وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله . وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر .
( والمرسلات عرفا ) . . عن أبي هريرة أنها الملائكة . وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات ، والسدي والربيع بن أنس ، وأبي صالح في رواية [ والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أرسالا متوالية ، كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها ] .
وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات . . إنها الملائكة .
وروي عن ابن مسعود . . المرسلات عرفا . قال : الريح . [ والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها ] وكذا قال في العاصفات عصفا والناشرات نشرا . وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية .
وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفا هل هي الملائكة أو الرياح . وقطع بأن العاصفات هي الرياح . وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء .
وعن ابن مسعود : ( فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا ، عذرا أو نذرا )يعني الملائكة . وكذا قال : ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف . فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، تفرق بين الحق والباطل . وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار .
ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذروا . وفي النازعات غرقا . . وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها . وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا . وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام . وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها ، والظلال المباشرة التي تلقيها . وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها . . وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة ، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزا ، وهو يستجوبه عن ذنب ، أو عن آية ظاهرة ينكرها ، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد : ( ويل يومئذ للمكذبين ) . .
سورة المرسلات مكية ، وعدد آياتها خمسون ، نزلت بعد سورة الهمزة . وهذه السورة كباقي السور المكية قصيرة الآيات ، تعرض مشاهد من الدنيا والآخرة ، وحقائق الكون والنفس ، ومناظر الهول والعذاب . وقد تكرر فيها قوله تعالى { ويل يومئذ للمكذبين } عشر مرات في عشرة مقاطع . وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة يمثل جولة في عالم تتحول السورة معه إلى مساحات من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات . وأهم ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة بعد المطلع الإخبار بأن يوم الفصل آت لا شك فيه ، وقد أكد ذلك بالقَسَم بعدة أشياء . وبعد الكلام على البعث والقيامة وإقامة الأدلة على وقوعها ، جاء تهديد من يكذب بهما وتكرير ذلك التهديد بالويل عشر مرات ، والتخويف بما يذوق المكذبون من المذلة والعذاب ، وتوبيخهم على نكران نِعم اله عليهم في الأنفس والآفاق ، ثم وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان .
ثم يأتي تبشير المتقين بما يلقونه من الرفاهة والنعيم ، ووصف نعيم المتقين في جنات النعيم ، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان والأرض والجبال ، وبيان عظمة الخالق وقدرته .
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة ، متعددة القوافي ، كل مقطع بقافية . ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة ، ثم يأتي ختامها بالويل للكافرين المكذبين الذين لا يؤمنون بالقرآن الكريم ، { فبأي حديث بعده يؤمنون } !
أقسم اللهُ تعالى بطوائف من الملائكة ، منهم المرسَلون إلى الأنبياء بالإحسان
وتسمى سورة العرف وهي مكية فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال بينما نحن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة المرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اقتلوها فابتدرناه فدخلت حجرها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيت شركم كما وقيتم شرها وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال كنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فبأي حديث بعده يؤمنون وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يدخل من يشاء في رحمته الخ افتتح هذه بالأقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . { والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً } قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد فقيل المرسلات والعاصفات طوائف والناشرات والفارقات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلت بأمره تعالى وأمرن بإنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف الريح تخففاً في امتثال الأمر وإيقاع العذاب بالكفرة إنقاذاً للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكراً إلى الأنبياء عليهم السلام ولعل من يلقى الذكر لهم غير مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا حديث الرصد وفي بعض الآثار نزل إلى ملك بألوكة من ربي فوضع رجلاً في السماء وثنى الأخرى بين يدي فالمرسلات صفة لمحذوف والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا الناشرات ونصب عرفاً على الحال والمراد متتابعة وكان الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه عليه ثم حذف أداة التشبيه مبالغة ومن هذا قولهم جاؤوا عرفاً واحداً إذا جاؤا يتبع بعضهم بعضاً وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه ويؤخذ من كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم كثر استعماله في معنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على أنه مفعول له على أنه بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر أي والمرسلات للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفاً لهم فإنه معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين الذين انتقم الله تعالى لهم منهم وعطف الناشرات على ما قبل الواو ظاهر للتغاير بالذات بينهما وعطف العاصفات على المرسلات والفارقات على الناشرات وكذا ما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات كما في قوله
: يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب *** وهي للدلالة على ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب وترتيب مضي الأمر على الإرسال به والأمر بإنفاذه ظاهر وأما ترتيب القاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الإلقاء فقيل لتأويل الفرق بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء وقيل لتقدم الفرق على الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر ومن هذا يظهر ترتيب الفرق على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر وكذا إرادته إذا أول أيضاً بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك الإرادة قبل وقيل إن الفاء في ذلك للترتيب الرتبي ضرورة أن إرادة الفرق أعلى رتبة من النشر وقيل إنها فيه وفيما بعده لمجرد الاشعار بأن كلاً من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الثلاثة المترتبة هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق واستعمال العاصفات بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل الاستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المذهبات المهلكات بالعذاب الذي أرسلن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضاً أو المجاز المرسل وعذراً ونذراً في قوله تعالى : { عُذْراً أَوْ نُذْراً }
جوز أن يكون مصدرين من عذر إذا أزال الإساءة ومن أنذر إذا خوف جاءا على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلاً من مصادر الثلاثي وأما الثاني فعلى خلاف القياس لأن قياس مصدر أفعل الأفعال وقيل هو اسم المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر وتسومح فيما تقدم وأن يكونا جمع عذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإنذار وانتصابهما على العلية والعامل فيهما الملقيات أو ذكراً وهو بمعنى التذكير والعظة بالترغيب والترهيب أي فالملقيات ذكراً لأجل العذر للمحقين أو لأجل النذر للمبطلين أو على الحالية من الملقيات أو الضمير المستتر فيها على التأويل أي عاذرين أو منذرين أو على البدلية من ذكرا على أن المراد به الوحي فيكونان بدل بعض أو التذكير والعظة فيكونان بدل كل وأن يكونا وصفين بمعنى عاذرين ومنذرين فنصبهما على الحالية لا غير وأو في جميع ذلك للتنويع لا للترديد ومن ثم قال الدينوري في مشكل القرآن أنها بمعنى الواو وقيل الثانية طوائف نشرن الشرائع في الأرض إلى آخر ما تقدم ووجه العطف بأن المراد أردن النشر فنزلن فألقين واحتيج للتأويل لمكان الإلقاء إلى الأنبياء عليهم السلام وإلا فهو لا يحتاج إليه في النشر والفرق لظهور ترتب الفرق على النشر كذا قيل فلا تغفل وقيل طوائف نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ففرقن الخ والنشر على هذا بمعنى الإحياء وفيما قبله بمعنى الإشاعة وقيل لا مغايرة بين الكل إلا بالصفات وهم جميعاً من الملائكة على الأقوال السابقة بيد أنه لم يعتبر هذا القائل تفسير النشر بنشر الأجنحة فقال أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن عز وجل بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في الامتثال ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى الأنبياء ذكراً وظاهره أيضاً أن الإرسال للأنبياء بالشرائع من الأمر والنهي بناء على أن الأوامر جمع جمع مخصوص بالأمر مقابل النهي ففي كلامه الاكتفاء وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من النهي بصيغته كدع مثلاً وقيل في عطف { الناشرات } بالواو دون الفاء وعطف { الفارقات } به أن النشر عليه بمعنى الإشاعة للشرائع وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول ويقتضي زماناً فلذا جيء بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية وإذا حصل النشر ترتب عليه الفرق من غير مهلة ولا يتوهم أنه كان حق الناشرات حينئذ ثم لأنه لا يتعلق القصد ههنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده في الواقع فقيل الإيذان بكونهما غاية للإلقاء حقيقة بالاعتناء أو الإشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكر وقيل أقسم سبحانه بإفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات موصوف آخر ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال شاع فيه وبالناشرات رياح رحمة وحاصله أنه جل وعلا أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على البقاع فألقين ذكراً إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمته تعالى في الغيث وإما إنذاراً للذين يكفرون ذلك وينسبونه إلى الأنواء ونحوها وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد والمراد بعرفاً متتابعة أو الناشرات رياح رحمة نشرن النبات وأبرزنه أي صرن سبباً لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذكراً إما عذراً للشاكرين وأما نذراً للكافرين وقيل أقسم سبحانه أولاً بالرياح وثانياً بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر وبين من يكفر كقوله تعالى : { لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً لنفتنهم فيه } [ الجن : 16 ، 17 ] فتسببن ذكراً أما وإما وقيل أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً وإحساناً أو شيئاً بعد شيء لأنها نزلت منجمة فعصفن وآذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق في أكناف العالمين وقيل أقسم جل جلاله برسله من البشر أرسلوا إحساناً وفضلاً كما هو المذهب الحق لا وجوباً كما زعم من زعم فاشتدوا وعظم أمرهم ونشروا دينهم وما جاؤا به ففرقوا بين الحق والباطل والحلال والحرام فألقوا ذكراً بين المكلفين ويجوز أن يراد على هذا بعرفاً متتابعة وقيل أقسم تبارك وتعالى بالنفوس الكاملة أي المخلوقة على صفة الكمال والاستعداد لقبول ما كلفت به وخلقت لأجله المرسلة إحساناً إلى الأبدان لاستكمالها فعصفهن وأذهبن ما سوى الحق بالنظر في الأدلة الحقة ففرقن بين الحق المتحقق بذاته الذي لا مدخل للغير فيه وهو واجب الوجود سبحانه وبين الباطل المعدوم في نفسه فرأين كل شيء هالكاً إلا وجهه فألقين في القلوب والألسنة ومكن فيها ذكره تعالى فليس في قلوبها وألسنتها إلا ذكره عز وجل أو طرحن ذكر غيره سبحانه عن القلوب والألسنة فلا ذكر فيها لما عداه وقيل الثلاثة الأول الرياح والأخيرتان الملائكة عليهم السلام وقيل بالعكس والمناسبة باللطافة وسرعة الحركة وقيل الأولتان الملائكة إلا أن المرسلات ملائكة الرحمة والعاصفات ملائكة العذاب والثلاثة الأخيرة آيات القرآن النازلة بها الملائكة وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال : { والمرسلات عُرْفاً } الرسل ترسل بالمعروف { فالعاصفات عَصْفاً } الريح { والناشرات نَشْراً } المطر { فالفارقات فَرْقاً } الرسل ومن وجه آخر { والمرسلات عُرْفاً } الملائكة { فالعاصفات عَصْفاً } الرياح العواصف { والناشرات نَشْراً } الملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحاً به في بعض الروايات { فالفارقات فَرْقاً } الملائكة يفرقون بين الحق والباطل { فالملقيات ذِكْراً } الملائكة أيضاً يجيؤون بالقرآن { عُذْراً أو نذراً } منه تعالى إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة الصحابة والتابعين فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل { المرسلات } الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر { العاصفات } بالشديدات الهبوب وروى تفسير المرسلات بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وفي أخرى عن ابن عباس أنها جماعة الأنبياء أرسلت أفضالاً من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود { *الناشرات } الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره وروى عن مجاهد وقتادة وقال الربيع الملائكة تنشر الناس من قبورهم قال الضحاك الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون { *الناشرات } على معنى النسب وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك { *الفارقات } الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام وقال قتادة والحسن وابن كيسان آيات القرآن فرقت بين ما يحل وما يحرم وعن مجاهد أيضاً الرياح تفرق بين السحاب فتبدده وعن ابن عباس وقتادة والجمهور الملقيات الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر { *العاصفات } بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها ومنهم من فسر { *الفارقات } بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقة الفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع ومنهم من فسرها بالعقول تفرق بني الحق والباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط .
والذي أخاله أظهر كون المقسم به شيئين «المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات الملقيات » لشدة ظهور العطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمر الحشر والنشر لما أن الآثار المشاهدة المترتبة الرياح ترتباً قريباً وبعيداً تنادي بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع هذا الأقوال كثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو وقرأ عيسى عرفاً بضمتين نحو نكر في { نكر } وقرأ ابن عباس فالملقيات بالتشديد من التلقية وقيل وهي كالإلقاء إيصال الكلام إلى المخاطب يقال لقيته الذكر فتلقاه وذكر المهدوي أنه رضي الله تعالى عنه قرأ فالملقيات بفتح اللام وتشديد القاف اسم مفعول أي ملقية من الله عز وجل وقرأ زيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن بخلاف والأعمش عن أبي بكر عذراً أو نذراً بضم الذالين وقرأ الحرميان وأبو عامر وأبو بكر وزيد بن علي وشيبة وأبو جعفر أيضاً بسكون الذال في عذراً وضمنها في نذار وقرأ إبراهيم التيمي ونذراً بالواو .
هذه السورة مكية وعدد آياتها خمسون . وهي مبدوءة بالقسم من الله بأجزاء من خلقه كالرياح العواصف ، والملائكة الأطهار على أن الساعة قائمة وأنها حق لا ريب فيه .
ويبين الله في السورة ما يقع من أحداث كونية هائلة إيذانا بفناء العالم ووقوع الواقعة وانتصاب الميزان للحساب .
وفي السورة تذكير للعباد بمصيرهم الذي يؤولون إليه يوم القيامة فإما التعس والخسران والإفضاء إلى جهنم ، وإما النجاة والفوز برضوان الله وجنته حيث النعيم الدائم المقيم .
{ والمرسلات عرفا 1 فالعاصفات عصفا 2 والناشرات نشرا 3 فالفارقات فرقا 4 فالملقيات ذكرا 5 عذرا أو نذرا 6 إنما توعدون لواقع 7 فإذا النجوم طمست 8 وإذا السماء فرجت 9 وإذا الجبال نسفت 10 وإذا الرسل أقّتت 11 لأي يوم أجلت 12 ليوم الفصل 13 وما أدراك ما يوم الفصل 14 ويل يومئذ للمكذبين } .
يقسم الله بجزء مما خلق وهو قوله : { والمرسلات عرفا } المراد بالمرسلات ، الرياح في قول أكثر المفسرين . وقيل : المراد بها الملائكة . والقول الأول أظهر . ويدل عليه أن الرياح عواصف فهي تعصف عصفا . وأن الله ذكر الرياح بالإرسال كقوله : { وأرسلنا الرياح لواقح } .
وقوله : { عرفا } منصوب على الحال . أي والرياح أرسلت متتابعة{[4718]} والمعنى : أرسلنا الرياح فيتبع بعضها بعضا كعرف الفرس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} فمدنية.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَهِيَ من غَرَائِبِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ الْأَرْضِ. وَرَوَى الصَّحِيحَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَارٍ، فَنَزَلَتْ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا من فِيهِ رَطْبَةً إذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ من جُحْرِهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الدلالة على آخر الإنسان من إثابة الشاكرين بالنعيم، وإصابة الكافرين بعذاب الجحيم، في يوم الفصل بعد جمع الأجساد وإحياء العباد بعد طي هذا الوجود وتغيير العالم المعهود.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة!
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: (ويل يومئذ للمكذبين)!
ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد.
وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة "الرحمن " عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد: (فبأي آلاء ربكما تكذبان؟).. كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة " القمر " عقب كل حلقة من حلقات العذاب: (فكيف كان عذابي ونذر؟).. وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعما مميزا.. حادا..
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة.
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة: (والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا).. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام.
وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها.. وهذا نموذج منها، كما اختار إطارا من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في " سورة الضحى " وإطارا من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة " والعاديات".. وغيرها كثير.
وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع، يمثل جولة أو رحلة في عالم، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات.. أعرض بكثير جدا من مساحة العبارات والكلمات، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى!
والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل. وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر: (فإذا النجوم طمست. وإذا السماء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين!).
والجولة الثانية مع مصارع الغابرين، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين: (ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير: (ألم نخلقكم من ماء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي: (ألم نجعل الأرض كفاتا؟ أحياء وأمواتا، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا؟ ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب! لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين، ومزيد من التأنيب والترذيل: (هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون. ويل يومئذ للمكذبين! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الثامنة مع المتقين، وما أعد لهم من نعيم: (إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب: (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب: (وإذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين!).
والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات: (فبأي حديث بعده يؤمنون؟)..
وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها. فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن -والمكية منها بوجه خاص- ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة، وفي أضواء متعددة، وبطعوم ومذاقات متعددة، وفق الحالات النفسية التي تواجهها، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله، فتبدو في كل حالةجديدة، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة.
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم. وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد. كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله. ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة. حادة الملامح. لاذعة المذاق. لاهثة الإيقاع!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى.
وسميت في عهد الصحابة سورة والمرسلات عرفا، ففي حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية...) الحديث.
وفي الصحيح عن ابن عباس قال قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل امرأة العباس فبكت وقالت: بني أذكرتني بقرائتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
وسميت سورة المرسلات، روى أبو داود عن ابن مسعود كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة ثم قال وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه.
واشتهرت في المصاحف باسم المرسلات وكذلك في التفاسير وفي صحيح البخاري.
وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في حاشيتيهما على البيضاوي أنها تسمى سورة العرف، ولم يسنداه، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم...
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه.
وعن ابن عباس وقتادة: أن آية {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} مدنية نزلت في المنافقين، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرون بالصلاة، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله {وإذا قيل لهم} وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون. ومعنى {قيل لهم اركعوا}: كناية عن أن يقال لهم أسلموا، ونظيره قوله تعالى {وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} فهي في المشركين وقوله {قالوا لم نك من المصلين} إلى قوله {وكنا نكذب بيوم الدين}.
وعن مقاتل نزلت {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا. فقال لهم: لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود.
وهذا أيضا أضعف، وإذا صح ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم الآية...
اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك.
والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض.
ووعد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله.
والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل. ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين.
وإعادة الدعوة إلى الإسلام والتصديق بالقرآن لظهور دلائله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية: (ويل يومئذ للمكذبين) عشر مرات بعد كل موضوع جديد، وتنبئ السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الثقيلة والصعبة للبعث، ثمّ تذكر عقب ذلك هذه الآية: (ويل يومئذ للمكذبين):
وتتحدث السورة أولاً عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.
ثمّ تتحدث ثانياً عن جانب من خصوصيات خلق الإِنسان.
وفي المرحلة الثّالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.
وفي الرّابعة تشرح السورة جانباً من عذاب المكذبين، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة، ثمّ تأكيد تلك الآية بعد ذكر كلّ موضوع من هذه المواضيع، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.
على كل حال فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام يدور عن النعم، أمّا في السورة فغالباً ما تتحدث عن عذاب المكذبين.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والمرسلات عرفا} يقول الملائكة، وأرسلوا المعروف.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قول الله:"وَالمُرْسَلاتِ عُرْفا"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: والرياح المرسلات يتبع بعضها بعضا، قالوا: والمرسَلات: هي الرياح.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والملائكة التي تُرسَل بالعرف.
قالوا: فتأويل الكلام والملائكة التي أرسلت بأمر الله ونهيه، وذلك هو العرف. وقال بعضهم: عُني بقوله "عُرْفا": متتابعا كعرف الفرس، كما قالت العرب: الناس إلى فلان عرف واحد، إذا توجهوا إليه فأكثروا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالمرسلات عرفا، وقد ترسل عُرْفا الملائكة، وترسل كذلك الرياح، ولا دلالة تدلّ على أن المعنيّ بذلك أحد الحِزْبين دون الآخر، وقد عمّ جلّ ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فكلّ من كان صفته كذلك، فداخل في قسمه ذلك مَلَكا أو ريحا أو رسولاً من بني آدم مرسلاً.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {والمرسلات عرفا} {فالعاصفات عصفا} {والناشرات نشرا} {فالفارقات فرقا} {فالملقيات ذكرا} اختلفوا في تأويلها:
فمنهم من حمل تأويل هذا كله على الملائكة، ومنهم من صرفها إلى الرياح ومنهم من صرف البعض إلى الرياح والبعض إلى الملائكة.
وجائز أن يجعل هذا كله في الرياح، ويستقيم أن يصرف كله إلى الملائكة، ويستقيم أن يجعل البعض في الملائكة والبعض في الرياح.
فإن كان في الرياح استقام القسم بها، لأن من الرياح رياحا، هنّ مبشرات برحمته سابقات للنعم إلى عباده كقوله تعالى: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته} [الروم: 46].
ومن الرياح رياح، هي منجيات؛ قال الله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم} [يونس: 22] فجعلها الله تعالى سببا لتسيير السفن في البحار كما جعل الماء سببا لذلك.
وجعل منها مهلكات مذكرات لقوته وسلطانه كما قال عز وجل: {فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم} الآية [الإسراء: 69] فهي تميتهم، وتهلكهم، من غير أن يدركوه بأبصارهم، وإن كانت الأبصار، هي أول ما يقع بها درك الأشياء. ولو أراد أحد أن يعرف الوجه الذي له صارت المنجيات منجيات، أو يعرف الوجه الذي له صارت الرياح مهلكات أو مبشرات لم يقف عليه.
فصارت الرياح مذكرات للنعم. وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث وبكل ما يخبرهم به الرسل لأنهم كانوا ينكرون البعث، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم، علموا أن الأمر غير مقدر بعقولهم ولا بحكمتهم، فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض لهم من الشك والشبه في أمر البعث، فأقسم بها، جلّ جلاله، على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيد ما يقصد إليه باليمين.
فرجعنا إلى قوله تعالى: {والمرسلات عرفا} قيل: هي الرياح المبشرات، سميت {عرفا} لأن ما يأتي به من النعم معروف، وقيل: العرف المتتابع وسمي عرف الفرس عرفا لتتابع بعض الشعر على بعض. فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة.
وكذلك قوله تعالى: {عرفا} جائز أن يكون يحمل على الرياح، لكن على الرياح المبشرات، وهي الرياح السهلة الخفيفة، لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله: {وهو الذي يرسل الرياح} نشرا {بين يدي رحمته} [الأعراف: 57] في بعض القراءات.
وقوله تعالى: {فالعاصفات عصفا} هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء، وتقصمها، وهي التي ترسل للإهلاك كقوله تعالى: {فيرسل عليكم قاصفا من الريح} [الإسراء: 69].
وجائز أن يكون قوله تعالى: {والمرسلات عرفا} هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للإهلاك أو للتبشير لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب وغير ذلك قبل أن تتتابع. وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها، وهو أن تكون قاصفة شديدة قبل أن تتتابع.
وقوله تعالى: {فالفارقات فرقا} يحتمل الرياح أيضا، وإنما سميت فارقات لأنها تفرق السحاب، فيصير البعض في أفق، والبعض في أفق آخر.
وقوله تعالى: {فالملقيات ذكرا} فجائز أن يصرف إلى الرياح، وإلقاء ذكرها ما ذكرنا أنه يظهر بها النعم، وتتذكر، وتبين بها النجاة، ويقع ببعضها الهلاك. فذلك إلقاء ذكرها، والله أعلم.
وإن صرف الكل إلى الملائكة فيحتمل أيضا؛ فقوله عز وجل: {والمرسلات عرفا} أي الملائكة الذين [أرسلوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله عز وجل: {فالعاصفات عصفا} أي الملائكة الذين] يعصفون أرواح الكفار، أي يأخذونها على شدة وغضب.
وقوله تعالى: {والناشرات نشرا} جائز أن يكون أريد بها النشرة من الملائكة، سمّوا ناشرات لأنهم ينشرون الصحف، ويقرؤونها. وجائز أن يراد بها الملائكة الذين يأخذون أرواح المؤمنين على لين ورفق.
وقوله تعالى: {فالفارقات فرقا} جائز أن يراد بها الملائكة، وسميت فارقات لأنهم يفرقون بين الحق والباطل.
وقوله تعالى: {فالملقيات ذكرا} هم الملائكة الذين يلقون الذكر على ألسن الرسل عليهم السلام.
وإن صرف البعض إلى الملائكة والبعض إلى الرياح فمستقيم أيضا: فتكون المرسلات الذين أرسلوا بالمعروف والخير، والعاصفات الريح الشديدة، والناشرات الرياح الخفيفة السهلة، {فالفارقات فرقا} {فالملقيات ذكرا} هم الملائكة.
ويحتمل وجها آخر: أن يراد بقوله: {والمرسلات} هم الرسل من البشر الذين بعثوا إلى الخلق، فما من رسول بعث إلا وهو مرسل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكذلك جائز أن يراد بقوله تعالى: {فالفارقات فرقا} {فالملقيات ذكرا} هم الرسل لأنهم يفرقون بين الحق والباطل، ويلقون الذكر في مسامع الخلق.
وجائز أن يكون قوله: {والمرسلات عرفا} هي الكتب المنزلة من السماء لأنها أرسلت بالمعروف وكل أنواع الخير، وكذا قوله: {والناشرات نشرا} للحق والهدى، وكذا قوله تعالى: {فالفارقات فرقا} لأنها تفرق بين الحق والباطل أيضا، وكذلك {فالملقيات ذكرا} فإنها سبب لذلك، والله أعلم
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به، وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه، أحدها: شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى، كما قال تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}. وثانيها: أنهم أقسام: فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم...
القول الثاني: أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح، أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفا أي متتابعة كشعر العرف، كما قال: {يرسل الرياح، وأرسلنا الرياح} ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة نشرت السحاب في الجو، كما قال: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} وقال: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء} ويجوز أيضا أن يقال: الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات...
القول الثالث: من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن، فقوله: {والمرسلات} المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {عرفا} أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختمت سورة الإنسان بالوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه، وكان الكفار يكذبون بذلك، افتتح هذه بالإقسام على أن ذلك كائن فقال: {والمرسلات} أي من الرياح والملائكة {عرفاً} أي لأجل إلقاء المعروف من القرآن والسنة وغير ذلك من الإحسان، ومن إلقاء الروح والبركة وتيسير الأمور في الأقوات وغيرها، أو حال كونها متتابعة متكاثرة بعضها في أثر بعض.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أقسم تعالى على البعث والجزاء بالأعمال، بالمرسلات عرفا، وهي الملائكة التي يرسلها الله تعالى بشئونه القدرية وتدبير العالم، وبشئونه الشرعية ووحيه إلى رسله.
{عُرْفًا} حال من المرسلات أي: أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة، لا بالنكر والعبث.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا. فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا: عذرا أو نذرا.. إن ما توعدون لواقع..
القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى الموكدات في مواضع منه شتى. وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم،، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعا. فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية. وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعا.. ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول.
والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع. وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب، وقواه المكنونة، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها. فقال بعضهم: هي الرياح إطلاقا. وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقا. وقال بعضهم: إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة.. مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها. وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله. وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر.
نحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذروا. وفي النازعات غرقا.. وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها. وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا. وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام. وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها، والظلال المباشرة التي تلقيها. وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها.. وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزا، وهو يستجوبه عن ذنب، أو عن آية ظاهرة ينكرها، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد: (ويل يومئذ للمكذبين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قسَم بِمخلوقات عظيمة دالّةٍ على عظيم علم الله تعالى وقدرته. والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر، وفي تطويل القَسَم تشويقُ السامع لتلقي المقسم عليه. فيجوز أن يَكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعاً واحداً، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة. ومشى صاحب «الكشاف» على أن المقسم بها كلهم ملائكة. ولم يختلف أهل التأويل أن {المُلْقِيات ذِكراً} للملائكة. وقال الجمهور: العاصفات: الرياح ولم يحك الطبري فيه مخالفاً. وقال القرطبي: قيل العاصفات: الملائكة. و {الفارقات} لم يحك الطبري إلاّ أنهم الملائكةُ أو الرسلُ. وحكى القرطبي عن مجاهد: أنها الرياح. وفيما عدا هذه من الصفات اختَلَف المتأوّلون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح. ف {المرسَلات} قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسروق: هي الملائكة. وقال ابن عباس وقتادة: هي الرياح، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء.
و {الناشرات} قال ابن عباس والضحاك وأبو صالح: الملائكة. وقال ابن مسعود ومجاهد: الرياح وهو عن أبي صالح أيضاً.
ويتحصل من هذا أن الله أقسَم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله: {والسماءِ ذات البروج واليوم الموعود} [البروج: 1، 2]، ومثله تكَرَّر في القرآن.
ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس مَا عطفت هي عليه، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفاتُ جنس آخر.
فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح، وأن ما بعدها صفات للملائكة، والواو الثانية للعطف وليست حرف قَسَم.
ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية؛ لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتاً غير المعطوف عليه، وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل.
فسر {عُرفاً} بأنه اسمٌ، أي الشعرَ الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ، أي كالعُرف في تتابع البعض لبعض، وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول، أي معرُوف (ضد المنكَر)، وأن نصبه على المفعول لأجله، أي لأجل الإِرشاد والصلاح.