( فمهل الكافرين ) . . ( أمهلهم رويدا ) . . لا تعجل . ولا تستبطئ نهاية المعركة . وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها . . فإنما هي الحكمة وراء الإمهال . الإمهال قليلا . . وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا . فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى ?
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول : ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) . . كأنه هو [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب الأمر ، وصاحب الإذن ، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم . أو يوافق على إمهالهم . وليس من هذا كله شيء للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه . ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئا . ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضى فيها الأمر ويبرم . . وكأنما يقول له ربه : إنك مأذون فيهم . ولكن أمهلهم . أمهلهم رويدا . . فهو الود العطوف والإيناس اللطيف . يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد ، فتنمحي كلها وتذوب . . ويبقى العطف الودود . .
{ فَمَهّلِ الكافرين } فلا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم بالهلاك أو تأن وانتظر الانتقام منهم ولا تستعجل والفاء لترتيب مما بعدها على ما قبلها فإن الأخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم اهمالهم مما يوجب إمهالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعاً ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها وقيل للإشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى : { أَمْهِلْهُمْ } بدل من مهل على ما صرح به في الإرشاد وقوله سبحانه : { رُوَيْداً } اما مصدر مؤكد لمعنى العَامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالاً رويداً أي قريباً كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلاً كما روي عن قتادة وأخرج ابن المنذر عن السدى أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من مات فقد قامت قيامته والظاهر ما قال السدى وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لا يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد :
كأنها ثمل تمشي على رود *** أي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغير ارواد مصدر رواد يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو رويداً زيد أي أمهله وكونه حالاً نحو سار القوم رويداً أي متمهلين غير مستعجلين ولم يذكر أحد احتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر كلها بمعنى فكانه قيل أمهل الكافرين أمهلهم أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظاً ومعنى نحو ذلك ففي الحديث «أيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكاحها باطل باطل » ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جداً وجوز رحمه الله كونه حالاً أي أمهلهم غير مستعجل والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى { لا تعثوا في الأرض مفسدين } [ البقرة : 60 ] فلا تغفل وهو أيضاً بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلى الله عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة والسلام وإنما دلت الزيادة من حيث الاشعار بالتغاير كأن كلا كلام مستقل بالأمر بالتأني فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس مهلهم بفتح الميم وشد الهاء موافقة للفظ الأمر الأول .
قوله : { فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا } لا تستعجل العذاب لهم ، ولا تسأل الله أن يعجّل هلاكهم ، بل ذرهم لأمر الله وتدبيره ، وما يعدّه لهم من سوء المصير . حتى إذا حان الأجل المقدور حاق بهم البلاء والتدمير { أمهلهم رويدا } أمهلهم ، بدل من " مهّل " والإمهال معناه الإنظار : والتمهل معناه الاتئاد . ورويدا ، منصوب على أنه مصدر مؤكد . أو صفة لمصدر محذوف . والمعنى : أمهل الكافرين الماكرين إمهالا قريبا{[4799]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فَمَهّلِ الْكافِرِينَ "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فمهّل يا محمد الكافرين ولا تعجلْ عليهم.
"أمْهِلْهُمْ رُوَيْدا" يقول: أمهلهم آنا قليلاً، وأنظرهم للموعد الذي هو وقت حلول النقمة بهم... عن ابن عباس، قوله: "أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا" يقول: قريبا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فمهل وأمهل، لغتان؛ فكأنه يقول: أمهلهم {أمهلهم رويدا} ولا تجازهم بصنيعهم، فإن الله تعالى يجازيهم بصنيعهم عن قريب، وقد فعل بما سلط رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم بقتلهم وسبيهم، فيكون في هذا بشارة منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم وبغلبته إياهم. وفي ذلك آية رسالته لأنه قال لهم هذا عند قلة أعوانه وضعفه. ثم إن الله تعالى كثر أنصاره، وأظهر عليهم كما قال لهم ليعلموا أنه علم ذلك بالوحي، والله الموفق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... المعنى: لا تعجل على طلب هلاكهم بل اصبر عليهم قليلا، فإن الله يهلكهم لا محالة بالقتل والذل في الدنيا وما ينزل عليهم في الآخرة من أنواع العقاب، وإن ما وعدتك لا يبعد عنهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمَهِّلِ الكافرين} يعني لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي إمهالا يسيراً؛ وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير...
منهم من قال: {أمهلهم رويدا} إلى يوم القيامة وإنما صغر ذلك من حيث علم أن كل ما هو آت قريب، ومنهم من قال: أمهلهم رويدا إلى يوم بدر والأول أولى، لأن الذي جرى يوم بدر وفي سائر الغزوات لا يعم الكل، وإذا حمل على أمر الآخرة عم الكل، ولا يمتنع مع ذلك أن يدخل في جملته أمر الدنيا، مما نالهم يوم بدر وغيره، وكل ذلك زجر وتحذير للقوم، وكما أنه تحذير لهم فهو ترغيب في خلاف طريقهم في الطاعات، والله سبحانه وتعالى أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فمهل} أي تمهيلاً عظيماً بالتدريج. ولما كان في المكذبين في علم الله من يؤمن فليس مستحقاً لإيقاع مثل هذا التهديد، عبر بالوصف المقتضي للرسوخ فقال: {الكافرين} أي فلا تدع عليهم ولا تستعجل لهم بالإهلاك، فإنا لا نعجل لأنه لا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوت...
. ولما كانت صيغة التفعيل ربما أفهمت التطويل، أكد ذلك مجرداً للفعل دلالة على أن المراد بالأول إيقاع الإمهال مع أن زمنه قصير بالتدريج ليطمئن الممهل بذلك وتصير له به- قوة عظيمة ودرته؟ وعزيمة صادقة لأن ما يقولونه مما تشتد كراهة النفوس له، فلا يقدر أحد على الإعراض عنه إلا بمعونة عظيمة: {أمهلهم} أي بالإعراض عنهم مرة واحدة بعد التدريج لما صار لك على حمله من القوة بالتدريج -الذي أمرت به سابقاً {رويداً} أي إمهالاً يسيراً فستكون عن قريب لهم أمور، وأي أمور تشفي الصدور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا تعجل. ولا تستبطئ نهاية المعركة. وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها.. فإنما هي الحكمة وراء الإمهال. الإمهال قليلا.. وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا. فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى؟ ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول: (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا).. كأنه هو [صلى الله عليه وسلم] صاحب الأمر، وصاحب الإذن، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم. أو يوافق على إمهالهم. وليس من هذا كله شيء للرسول [صلى الله عليه وسلم] إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه [صلى الله عليه وسلم] الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه. ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئا. ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضى فيها الأمر ويبرم.. وكأنما يقول له ربه: إنك مأذون فيهم. ولكن أمهلهم. أمهلهم رويدا.. فهو الود العطوف والإيناس اللطيف. يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد، فتنمحي كلها وتذوب.. ويبقى العطف الودود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء لتفريع الأمر بالإِمهال على مجموع الكلام السابق من قوله: {إنه لقول فصل} بما فيه من تصريح وتعريض وتبْيين ووعدٍ بالنصر، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع بهم لا محالة. والتمهيل: مصدر مَهَّل بمعنى أمهل، وهو الإِنظار إلى وقت معيّن أو غير معين، فالجمع بين « مَهِّل» و {أمهلهم} تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير. والمراد ب {الكافرين} ما عاد عليه ضمير {إنهم يكيدون} فهو إظهار في مقام الإِضمار للنداء عليهم بمذمة الكفر، فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون...
والمعنى: انتظر ما سيحلّ بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتّئاد فيكون {رويداً} كناية عن تحقق ما يحلّ بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به. وتصغيره للدلالة على التقليل، أي مُهلة غير طويلة. ويجوز أن يكون {رويداً} هنا اسم فعل للأمر، كما في قولهم: رُويدك، لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شَرطاً، ويكون الوقف على قوله: {الكافرين} و {رويداً} كلاماً مستقلاً، فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر، أي تصبر وَلا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
وفي هذه الآية تهديد لقريش، وتسلية للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووعد له بالنصر. وحصل الأمر كما أخبر الله عز وجل...