( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا : هذا عارض ممطرنا . بل هو ما استعجلتم به : ريح فيها عذاب أليم ، تدمر كل شيء بأمر ربها ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . كذلك نجزي القوم المجرمين ) . .
وتقول الروايات : إنه أصاب القوم حر شديد ، واحتبس عنهم المطر ، ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف . ثم ساق الله إليهم سحابة ، ففرحوا بها فرحا شديدا ، وخرجوا يستقبلونها في الأودية ، وهم يحسبون فيها الماء : ( قالوا هذا عارض ممطرنا ) . .
وجاءهم الرد بلسان الواقع : ( بل هو ما استعجلتم به : ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها ) . . وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى . كما جاء في صفتها : ( ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ) .
والفاء في قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً } فصيحة أي فأتاهم فلما رأوه ، وضمير النصب قيل راجع إلى { مَا } في { بِمَا تَعِدُنَا } [ الأحقاف : 22 ] وكون المرئي هو الموعود باعتبار المآل والسببية له وإلا فليس هو المرئي حقيقة ، وجوز الزمخشري أن يكون مبهماً يفسره { عَارِضاً } وهو إما تمييز وإما حال ، ثم قال : وهذا الوجه أعرب أي أبين وأظهر لما أشرنا إليه في الوجه الأول من الخفاء وأفصح لما فيه من البيان بعد الإبهام والإيضاح غب التعمية .
وتعقبه أبو حيان بأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون في باب رب نحو ربه رجلاً لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد وبئس غلاماً عمرو ، وأما أن الحال توضح المبهم وتفسره فلا نعلم أحداً ذهب إليه ، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميراً ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه ، وأنت تعلم جلالة جار الله وإمامته في العربية ، والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء ، ومنه قول الشاعر :
يا من رأى عارضاً أرقت له *** بين ذراعي وجبهة الأسد
يا من رأى عارضاً قد بت أرمقه *** كأنما البرق في حافاته الشعل
{ مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي متوجه أوديتهم وفي مقابلتها وهي جمع واد ، وأفعلة في جمع فاعل الاسم شاذ نحو ناد وأندية وجائز للخشبة الممتدة في أعلى السقف وأجوزة والإضافة لفظية كما في قوله تعالى : { قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } ولذلك وقعاً صفتين للنكرة وأطلق عليها الزمخشري مجازية ووجه التجوز أن هذه الإضافة للتوسع والتخفيف حيث لم تفد فائدة زائدة على ما كان قبل فكما أن إجراء الظرف مجرى المفعول به مجاز كذلك إجراء المفعول أو الفاعل مجرى المضاف إليه في الاختصاص ولم يرد أنها من باب الإضافة لأدنى ملابسة .
{ بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } أي من العذاب والكلام على إضمار القول قبله أي قال هود بل هو الخ لأن الخطاب بينه وبينهم فيما سبق ويؤيده أنه قرئ كذلك وقدره بعضهم قل بل هو الخ للقراءة به أيضاً والاحتياج إلى ذلك لأنه إضراب ولا يصلح أن يكون من مقول من قال هذا عارض ممطرنا وقدر البغوي قال الله بل هو الخ وينفك النظم الجليل عليه كما لا يخفى . وقرئ { بَلِ مَا استعجلتم } أي بل هو ، وقرأ قوم { مَا استعجلتم } بضم التاء وكسر الجيم .
{ رِيحٌ } بدل من { مَا } أو من { هُوَ } أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو هو ريح { فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } صفة { رِيحٌ } لكونه جملة بعد نكرة وكذا قوله تعالى :
ولهذا قال : { فَلَمَّا رَأَوْهُ } أي : العذاب { عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي : معترضا كالسحاب قد أقبل على أوديتهم التي تسيل فتسقي نوابتهم ويشربون من آبارها وغدرانها .
{ قَالُوا } مستبشرين : { هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } أي : هذا السحاب سيمطرنا .
قال تعالى : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ } أي : هذا الذي جنيتم به على أنفسكم حيث قلتم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله : { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا } الضمير في قوله : { رأوه } يعود إلى غير مذكور والمراد به العارض وهو السحاب .
و { عارضا } منصوب على الحال ، يعني لما استعجلوا عذاب الله على سبيل الإنكار والجحود – فرأوه سحابا معترضا في الأفق متوجها نحو أوديتهم { قالوا هذا عارض ممطرنا } استبشروا به وحسبوه سحابا ممطرهم .
قوله : { بل هو ما استعجلتم به } يعني هو الذي استعجلتموه ، حيث قلتم من قبل { فأتنا بما تعدنا } .
قوله : { ريح فيها عذاب أليم } { ريح } ، بدل من " ما " أو خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هو ريح . وجملة { فيها عذاب أليم } صفة لريح . ثم وصف تلك الريح التي تحمل العذاب الماحق { تدمر كل شيء بأمر ربها } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه سحابا عارضا في ناحية من نواحي السماء "مُسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ "والعرب تسمي السحاب الذي يُرَى في بعض أقطار السماء عشيا، ثم يصبح من الغد قد استوى، وحبا بعضه إلى بعض عارضا، وذلك لعرضه في بعض أرجاء السماء حين نشأ... "قالُوا هَذَا عارِضٌ مِمْطِرُنا" ظنا منهم برؤيتهم إياه أن غيثا قد أتاهم يَحيون به، فقالوا: هذا الذي كان هودٌ يعدنا، وهو الغيث... وذُكر لنا أنهم حبس عنهم المطر زمانا، فلما رأوا العذاب مقبلاً، "قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا"... يقول الله عزّ وجلّ: "بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ ألِيمٌ".
وقوله: "بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ" يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه صلى الله عليه وسلم هود لقومه لما قالوا له عند رؤيتهم عارض العذاب، قد عرض لهم في السماء هذا عارض ممطرنا نحيا به، ما هو بعارض غيث، ولكنه عارض عذاب لكم، "بل هو ما استعجلتم به": أي هو العذاب الذي استعجلتم به، فقلتم: "ائْتِنا بِمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ"، "رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ". والريح مكرّرة على ما في قوله: "هُوَ ما اسْتَعْجَلْتمْ بِهِ" كأنه قيل: بل هو ريح فيها عذاب أليم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل:
أحدها: لأنه أخذ في عرض السماء...
الثاني: لأنه يملأ آفاق السماء...
والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فلما رأوه} أي العذاب الذي يعدهم به {عارضاً} أي سحاباً أسود بارزاً في الأفق ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر، حال كونه قاصداً إليهم- {مستقبل أوديتهم} أي طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك، وهو وصف لعارضاً... {قالوا} على عادة جهلهم مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل، لأن جهلهم به استمر حتى كاد أن يواقعهم: {هذا عارض} أي سحاب معترض في عرض السماء أي ناحيتها {ممطرنا} لكونهم رأوه أسود مرتاداً فظنوه ممتلئاً ماء يغاثون به بعد طول القحط وإرسال رسلهم إلى مكة المشرفة ليدعوا لهم هنالك الله الذي استخفوا به بالقدح في ملكه بأن أشركوا به من هو دونهم، علماً منهم بأن شركاءهم لا تغني عنهم في الإمطار شيئاً، غافلين عن ذنوبهم الموجبة لعذابهم، فلذلك قال الله تعالى مضرباً عن كلامهم، والظاهر أنه حكاية لقول هود عليه الصلاة والسلام في جواب كلامهم: {بل هو} أي هذا العارض الذي ترونه {ما استعجلتم به} أي طلبتم العجلة في إتيانه إليكم من العذاب. ولما اشتد تشوف السامع إلى معرفته قال: {ريح} أي ركمت هذا السحاب الذي رأيتموه {فيها عذاب أليم} أي شديد الإيلام، كانت تحمل الظعينة في الجو تحملها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة، وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ثم تقذف بهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{هذا عارض ممطرنا} يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر...
لاستقبال: التوجه قبالة الشيء، أي سائراً نحو أوديتهم. وأودية: جمع وادٍ جمعاً نادراً مثل نادٍ وأندية. ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقاً أغلبياً لأنّ غالب منازلهم في السهول ومقارّ المياه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} فقد جاء إليهم في صورة سحاب يعرض في الأفق ثم يمتد في الفضاء المطلّ عليهم، ليستقبل الوديان التي كانت تنتظر المطر الذي يملأ الينابيع ويروي الأرض، ف {قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} فاستقبلوه باستبشار، كما يستقبل الناس العطشى المطر القادم إليهم عبر السحاب، ولكن المسألة ليست كذلك {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ*}