وهذه صورة من صور التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء في المصير :
( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ؛ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم . كمن هو خالد في النار ، وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ? ) . .
إن هذه الصورة الحسية من النعيم والعذاب ترد في مواضع من القرآن . وقد تجيء معها صور معنوية أو تجيء مجردة . كما أن صور النعيم والعذاب المجردة عن الحسيات تجيء في مواضع أخرى .
والله الذي خلق البشر ، أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يؤثر في قلوبهم ، وما يصلح لتربيتهم . ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم . والبشر صنوف ، والنفوس ألوان ، والطبائع شتى . تلتقي كلها في فطرة الإنسان ، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان . ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب ، وصنوف المتاع والآلام ، وفق علمه المطلق بالعباد . .
هنالك ناس يصلح لتربيتهم ، ولاستجاشة همتهم للعمل كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن ، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، أو أنهار من عسل مصفى ، أو أنهار من خمر لذة للشاربين . أو صنوف من كل الثمرات . مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات . . فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم ، وما يليق لجزائهم .
وهنالك ناس يعبدون الله لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها . أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب . أو لأنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها . ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة أو إلى نار ، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق ، وهؤلاء يصلح لهم تربية ويصلح لهم جزاء أن يقول الله لهم : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) . . أو أن يعلموا أنهم سيكونون : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . .
ولقد روي عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يصلي حتى تنفر رجلاه . فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .
وتقول رابعة العدوية : " أو لو لم تكن جنة ولا نار لم يعبد الله أحد ، ولم يخشه أحد ? " .
وتجيب سفيان الثوري وقد سألها : ما حقيقة إيمانك ? تقول : " ما عبدته خوفا من ناره ، ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء . عبدته شوقا إليه " . .
وبين هذا اللون وذلك ألوان من النفوس والمشاعر والطباع . . وكلها تجد - فيما جعله الله من نعيم وعذاب ، ومن ألوان الجزاء - ما يصلح للتربية في الأرض ؛ وما يناسب للجزاء عند الله .
والملاحظ عموما أن صور النعيم والعذاب ترق وتشف كلما ترقى السامعون في مراقي التربية والتهذيب على مدى نزول القرآن . وحسب أنواع المخاطبين ، والحالات المتنوعة التي كانت تخاطب بالآيات . وهي حالات ونماذج تتكرر في البشرية في جميع الأعصار .
وهنا نوعان من الجزاء : هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله . والنوع الآخر :
( كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . .
وهي صورة حسية عنيفة من العذاب ، تناسب جو سورة القتال ، وتتناسب مع غلظ طبيعة القوم . وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام . فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ . والجزاء ماء حميم ساخن وتقطيع للأمعاء ، التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام !
ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء ، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء . .
بهذا يختم الجولة الأولى التي بدأت بالهجوم عند افتتاح السورة ، واستمرت في معركة متصلة ، عنيفة ، حتى الختام . .
آسِن : متغير الطعم والريح ، والفعل : أسَن يأسِن مثل ضرب يضرب وأسَن يأسُن مثل نصر ينصر ، وأسِن يأسَن مثل علم يعلم .
لذة للشاربين : لذيذ للشاربين .
صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين أنها : فيها أنهار من ماء عذب لم يتغير طعمه ، فالماء الراكد المتغيّر ضارٌّ لما فيه من الجراثيم ، وأنهارٌ من لبن لم يفسد طعمه ، وأنهار من خمر لذيذة للشاربين ، وأنهار من عسلٍ صافٍ من كل كَدَر . وفيها من جميع أنواع الثمرات . وفوق كل هذه النعم يأتي رضي الله عنهم { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } .
فهل صفةُ هذه الجنة وما فيها من خيرات ونعم مثل صفة الذين خُلِّدوا في النار ، { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } ؟ ؟ .
قرأ ابن كثير : أسِن بفتح الهمزة بغي رمد وكسر السين . والباقون : آسن : بمد الهمزة .
قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي : صفتها ، { فيها أنهار من ماء غير آسن } آجن متغير منتن ، قرأ ابن كثير { أسن } بالقصر ، والآخرون بالمد ، وهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسناً ، وآحن وأسن يأسن ، وأجن يأجن ، أسوناً وأجوناً ، إذا تغير ، { وأنهار من خمر لذة } لذيذة . { للشاربين } لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي ، { وأنهار من عسل مصفىً } أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، أنبأنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر ، عن عبد الله بن عمر ، عن حبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة } . قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . { ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار } أي : من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ، { وسقوا ماءً حميماً } شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا دنا منهم يشوي وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم { ف } إذا شربوه ، { فقطع أمعاءهم } فخرجت من أدبارهم ، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي .
قوله تعالى : " مثل الجنة التي وعد المتقون " لما قال عز وجل : " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات " [ الحج : 14 ] وصف تلك الجنات ، أي صفة الجنة المعدة للمتقين . وقد مضى الكلام في هذا في " الرعد " {[13923]} . وقرأ علي بن أبي طالب " مثال الجنة التي وعد المتقون " . " فيها أنهار من ماء غير آسن " أي غير متغير الرائحة . والآسن من الماء مثل الآجن . وقد أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا إذا تغيرت رائحته . وكذلك أجَنَ الماء يأجُنُ ويأجِنُ أجْنًا وأُجُونًا . ويقال بالكسر فيهما : أجِن وأسِن يأسَن ويأجَن أَسْنًا وأَجْنًا ، قاله اليزيدي . وأسن الرجل أيضا يأسن ( بالكسر لا غير ){[13924]} إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه ، قال زهير :
قد أترك{[13925]} القِرن مصفرًّا أناملُه *** يَمِيدُ في الرمح مَيْدَ المائح الأسِنِ
ويروى " الوسن " . وتأسن الماء تغير . أبو زيد : تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ . أبو عمرو : تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه . وقال اللحياني : إذا نزع إليه في الشبه ، وقراءة العامة " آسن " بالمد . وقرأ ابن كثير وحميد " أسن " بالقصر ، وهما لغتان ، مثل حاذر وحذر . وقال الأخفش : أسن للحال ، وآسن ( مثل فاعل ) يراد به الاستقبال .
قوله تعالى : " وأنهار من لبن لم يتغير طعمه " أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة . " وأنهار من خمر لذة للشاربين " أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها{[13926]} الأيدي كخمر الدنيا ، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون . يقال : شراب لذ ولذيذ بمعنى . واستلذه عده لذيذا . " وأنهار من عسل مصفى " العسل ما يسيل من لعاب النحل . " مصفى " أي من الشمع والقذى ، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل . وفي الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد ] . قال : حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة ] . وقال كعب : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم . وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . والعسل : يذكر ويؤنث . وقال ابن عباس : " من عسل مصفى " أي لم يخرج من بطون النحل . " ولهم فيها من كل الثمرات " " من " زائدة للتأكيد . " ومغفرة من ربهم " أي لذنوبهم . " كمن هو خالد في النار " قال الفراء : المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار . وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار . فقوله : " كمن " بدل من قوله : " أفمن زين له سوء عمله " [ فاطر : 8 ] . وقال ابن كيسان : مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم . ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم . " وسقوا ماء حميما " أي حارا شديد الغليان ، إذا أدنى منهم شوى وجوههم ، ووقعت فَرْوَةُ رؤوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم . والأمعاء : جمع مِعًى ، والتثنية معيان ، وهو جميع ما في البطن من الحوايا .
قوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن } { مثل الجنة } مبتدأ و خبره محذوف . و { مثل الجنة } يعني وصفها ، وهي التي وعدها الله المتقين ، وهم المؤمنون الذين يجتنبون المعاصي والآثام وما يسخط الله ، ويفعلون الطاعات والصالحات وما أمرهم به ربهم . لقد أنعم الله على هؤلاء المؤمنين المتقين بالجنة بوصفها العظيم ، فهي { فيها أنهر من ماء غير آسن } والآسن ، المتغير الرائحة{[4233]} والأنهار من الماء النقي العذب عظيمة المنافع ، عظيمة البهاء والجمال بمنظرها الساحر المثير ، وصورتها المشرقة الخلابة .
قوله : { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } لأنه من لبن الجنة بمذاقه الممتع وطعمه اللذيذ الذي لا يتغير ولا يأتي عليه فساد أو نتن ، كلبن الدنيا . فما في الجنة من خيرات وثمرات وطعوم لهو أكمل وأطيب وأنفع .
قوله : { وأنهار من خمر لذة للشاربين } { لذة } ولذيذه بمعنى{[4234]} ، فقد وصف خمر الجنة بأنها لذيذة الطعم ، طيبة الشرب ، يلتذ بها الشاربون المنعمون في الجنة . وهي ليست كخمر الدنيا التي تستر العقول وتفسد الأعصاب ، وتفضي إلى الأمراض والأسقام البدنية والنفسية الكثيرة .
قوله : { وأنهار من عسل مصفى } العسل ، هو لعاب النحل . وهو شراب نافع وشهي وعظيم الفوائد ، وفيه شفاء للناس . وهو في الجنة مصفى ، أي نقي مما يخالطه من الشمع والقذى والكدر .
قوله تعالى : { ولهم فيها من كل الثمرات } أي خولهم الله في الجنة كل ما يشتهون من الثمرات على اختلاف أنواعها وألوانها وأشكالها وطعومها { ومغفرة من ربهم } فوق ما أنعم الله به على عباده المتقين من عظيم الخيرات وألوان النعيم في الجنة ، قد غفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ، إذ عفا عنهم وتجاوز لهم عن خطاياهم عقب توبتهم وإنابتهم إلى ربهم .
قوله : { كمن هو خالد في النار } يعني ، أفمن هو في الجنة يتنعم في طيباتها وخيراتها ومباهجها ، كمن هو صال النار خالدا في جحيمها ولظالها { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } أي سقي هؤلاء المعذبون المخلدون في النار ماء حارا شديد الغليان فقطع أمعاءهم إذا شربوه من شدة حرارته{[4235]} .