وعند هذا الحد من رواية الحادث والتعقيب عليه وربطه بالحقائق البعيدة المدى يتجه الخطاب في السورة إلى المؤمنين ، يهتف بهم باسم الإيمان ، ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب ، وتيسر عليهم الاستجابة لتوجيهه وتكليفه . يتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى . والنظر فيما أعدوه للآخرة ، واليقظة الدائمة ، والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل ، ممن رأوا مصير فريق منهم ، وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار :
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، ولتنظر نفس ما قدمت لغد ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، أولئك هم الفاسقون . لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة . أصحاب الجنة هم الفائزون ) . .
والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله ، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها . حالة تجعل القلب يقظا حساسا شاعرا بالله في كل حالة . خائفا متحرجا مستحييا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها . وعين الله على كل قلب في كل لحظة . فمتى يأمن أن لا يراه ? !
( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) . .
وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه . . ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته . لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة . . وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير ، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد . فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلا ، ونصيبه من البر ضئيلا ? إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدا ، ولا يكف عن النظر والتقليب !
ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع :
( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) . .
فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء . . والله خبير بما يعملون . .
لغد : يوم القيامة ، كأنه من قربه يوم غد ، وكل آت قريب .
في هذه الآية الكريمة نصيحةٌ للمؤمنين وتعليم وتهذيب لهم أن يلزموا التقوى ، ويعملوا الصالحات ويقدّموا الخيرات والمالَ والجاه للمحتاجين ، حتى يجدوه أمامهم يوم القيامة . وقد كرر الله تعالى الحديث على التقوى لما لها من فوائد وعليها يبنى المجتمع الصالح .
{ واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } . لا يخفى عليه صغيرة ولا كبيرة في هذا الكون الواسع .
ولما أبلغ سبحانه في المواعظ في هذه السورة قولاً وفعلاً ، وكانت الإيقاعات المذكورة فيها مسببة عن الخيانات ممن كان له عهد فنقضه ، أو ممن كان أظهر الإيمان فأبان فعله كذبه ، قال سبحانه وتعالى استنتاجاً عن ذلك {[64119]}وعظاً للمؤمنين لأن الوعظ بعد المصائب أوقع في النفس وأعظم في ترقيق القلب وتحذيره مما يوجب العقوبة : { يا أيها الذين آمنوا } منادياً لهم نداء{[64120]} البعد معبراً بأدنى أسنان الإيمان لأنه عقب ذكر من أقر بلسانه فقط { اتقوا الله } أي اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ولا بد{[64121]} أن يستعرض عبيده ، فاحذروا عقوبته بسب التقصير فيما حده لكم من أمر أو نهي { ولتنظر نفس } أي كل نفس تنظر إلى نفاستها وتريد العلو على أقرانها ، ولعله وحدها للإشارة مع إفادة التعميم إلى{[64122]} قلة الممتثل لهذا الأمر جداً { ما قدمت } أي من الزاد الذي يكون به صلاح المنزل الذي من لم يسع في إصلاحه لم يكن له راحة ، هل يرضي الملك ما قدمته فينجيها أو {[64123]}يغضبه فيرديها{[64124]} .
ولما كان الأجل مبهم الوقت ، فكان لقاء الله في كل يوم بل كل لحظة للعاقل مترقباً لكونه ممكناً مع كونه{[64125]} على الإطلاق محققاً{[64126]} لا يجهله أحد ، قال مشيراً بتنكيره وإبهامه إلى تهويله وإعظامه : { لغد } أي لأجل العرض بعد الموت أو في يوم القيامة الذي هو في غاية القرب لأن هذه الدنيا كلها يوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون ، والموت أو الآخرة غده ، لا بد من{[64127]} كل منهما ، وكل ما لا بد منه فهو في غاية القرب لا سيما إن كان باقياً غير منقض ، وكل من نظر لغده أحسن مراعاة يومه ، وتنوينه{[64128]} للتعظيم من جهات لا تحصى{[64129]} .
ولما أمر بتقواه سبحانه خوفاً من سطواته أمر بتقواه لأجل مراقبته حياء من جلالته وهيبته تأكيداً للأمر لأن مدار النجاة على التقوى لأن مكايد الشيطان دقيقة ، فمن لم يبالغ في محاسبة نفسه وتفقد{[64130]} ما يمكن أن يكون من الخلل في أعماله أوشك أن يحبط الشيطان{[64131]} أعماله فقال تعالى : { واتقوا الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال {[64132]}أي اتقوه{[64133]} حياء منه ، فالتقوى الأولى لإيجاد صور الأعمال ، وهذه لتصفيتها وتزكية أرواحها ، ولذلك علل بقوله مرغباً مرهباً : { إن الله } أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى{[64134]} { خبير } أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة { بما تعملون * } فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى منه ومسمع فاستحيوا منه ، وكرر الاسم الأعظم كراهية أن {[64135]}يظن تقييد{[64136]} التقوى بحيثية من الحيثيات تعظيماً لهذا المقام إعلاماً بأن شؤونه لا تنحصر وأن إحاطته لا تخص مقاماً دون مقام ولا شأناً سوى{[64137]} شأن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.