وهذه صورة من صور التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء في المصير :
( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ؛ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم . كمن هو خالد في النار ، وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ? ) . .
إن هذه الصورة الحسية من النعيم والعذاب ترد في مواضع من القرآن . وقد تجيء معها صور معنوية أو تجيء مجردة . كما أن صور النعيم والعذاب المجردة عن الحسيات تجيء في مواضع أخرى .
والله الذي خلق البشر ، أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يؤثر في قلوبهم ، وما يصلح لتربيتهم . ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم . والبشر صنوف ، والنفوس ألوان ، والطبائع شتى . تلتقي كلها في فطرة الإنسان ، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان . ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب ، وصنوف المتاع والآلام ، وفق علمه المطلق بالعباد . .
هنالك ناس يصلح لتربيتهم ، ولاستجاشة همتهم للعمل كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن ، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، أو أنهار من عسل مصفى ، أو أنهار من خمر لذة للشاربين . أو صنوف من كل الثمرات . مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات . . فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم ، وما يليق لجزائهم .
وهنالك ناس يعبدون الله لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها . أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب . أو لأنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها . ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة أو إلى نار ، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق ، وهؤلاء يصلح لهم تربية ويصلح لهم جزاء أن يقول الله لهم : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) . . أو أن يعلموا أنهم سيكونون : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . .
ولقد روي عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يصلي حتى تنفر رجلاه . فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .
وتقول رابعة العدوية : " أو لو لم تكن جنة ولا نار لم يعبد الله أحد ، ولم يخشه أحد ? " .
وتجيب سفيان الثوري وقد سألها : ما حقيقة إيمانك ? تقول : " ما عبدته خوفا من ناره ، ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء . عبدته شوقا إليه " . .
وبين هذا اللون وذلك ألوان من النفوس والمشاعر والطباع . . وكلها تجد - فيما جعله الله من نعيم وعذاب ، ومن ألوان الجزاء - ما يصلح للتربية في الأرض ؛ وما يناسب للجزاء عند الله .
والملاحظ عموما أن صور النعيم والعذاب ترق وتشف كلما ترقى السامعون في مراقي التربية والتهذيب على مدى نزول القرآن . وحسب أنواع المخاطبين ، والحالات المتنوعة التي كانت تخاطب بالآيات . وهي حالات ونماذج تتكرر في البشرية في جميع الأعصار .
وهنا نوعان من الجزاء : هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله . والنوع الآخر :
( كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . .
وهي صورة حسية عنيفة من العذاب ، تناسب جو سورة القتال ، وتتناسب مع غلظ طبيعة القوم . وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام . فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ . والجزاء ماء حميم ساخن وتقطيع للأمعاء ، التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام !
ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء ، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء . .
بهذا يختم الجولة الأولى التي بدأت بالهجوم عند افتتاح السورة ، واستمرت في معركة متصلة ، عنيفة ، حتى الختام . .
آسِن : متغير الطعم والريح ، والفعل : أسَن يأسِن مثل ضرب يضرب وأسَن يأسُن مثل نصر ينصر ، وأسِن يأسَن مثل علم يعلم .
لذة للشاربين : لذيذ للشاربين .
صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين أنها : فيها أنهار من ماء عذب لم يتغير طعمه ، فالماء الراكد المتغيّر ضارٌّ لما فيه من الجراثيم ، وأنهارٌ من لبن لم يفسد طعمه ، وأنهار من خمر لذيذة للشاربين ، وأنهار من عسلٍ صافٍ من كل كَدَر . وفيها من جميع أنواع الثمرات . وفوق كل هذه النعم يأتي رضي الله عنهم { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } .
فهل صفةُ هذه الجنة وما فيها من خيرات ونعم مثل صفة الذين خُلِّدوا في النار ، { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } ؟ ؟ .
قرأ ابن كثير : أسِن بفتح الهمزة بغي رمد وكسر السين . والباقون : آسن : بمد الهمزة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون، وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه "فِيهَا أنهَارٌ مِنْ ماءٍ غَيرِ آسِنٍ "يقول تعالى ذكره في هذه الجنة التي: ذكرها أنهار من ماء غير متغير الريح، يقال منه: قد أَسِنَ ماء هذه البئر: إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت...
وقوله: "وأنهارٌ مِنْ لَبنٍ لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ" يقول تعالى ذكره: وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضروع، ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار، فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه.
وقوله: "وأنهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ للشّارِبِينَ" يقول: وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين يلتذّون بشربها...
وقوله: "وأنهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى" يقول: وفيها أنهار من عسل قد صُفّي من القَذى، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية، وإنما أعلم تعالى ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلاً جاريا سيل الماء واللبن المخلوقين فيها، فهو من أجل ذلك مصّفى، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية، لأنه كان في شمع فصُفي منه.
وقوله: "ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ" يقول تعالى ذكره: ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة من هذه الأنهار التي ذكرنا من جميع الثمرات التي تكون على الأشجار. "وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ" يقول: وعفو من الله لهم عن ذنوبهم التي أذنبوها في الدنيا، ثم تابوا منها، وصَفْحٌ منه لهم عن العقوبة عليها.
وقوله: "كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ" يقول تعالى ذكره: أمّن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا، كمن هو خالد في النار. وابُتدئ الكلام بصفة الجنة، فقيل: مثل الجنة التي وُعد المتقون، ولم يقل: أمّن هو في الجنة، ثم قيل بعد انقضاء الخبر عن الجنة وصفتها "كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ"، وإنما قيل ذلك كذلك، استغناء بمعرفة السامع معنى الكلام، ولدلالة قوله: "كمَنْ هُوَ خالِدٌ في النّارِ" على معنى قوله: "مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ".
وقوله: "وَسُقُوا ماءً حَمِيما" يقول تعالى ذكره: وسُقي هؤلاء الذين هم خلود في النار ماء قد انتهى حرّه فقطع ذلك الماء من شدّة حرّه أمعاءهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{مثل الجنة التي وُعد المتقون} من حياتكم هذه، لو كانت جناتكم في الدنيا على المثل الذي وصف في الآية: أليس كانت نفس كل أحد ترغب فيها، وتحرص على طلبها، لتكون تلك الجنة له، فما بالُكم لا ترغبون في تلك الجنة التي وُعد المتقون في الآخرة، لا ترغبون فيها، ولا تحرصون على طلبها؟ والله أعلم. ويخرّج على هذا التأويل قوله تعالى: {كمن هو خالد في النار} أي ليس من كان خالدا في جنة من جناتكم التي ما ذكر وصفها كمن هو خالد في نار من نيرانكم... أي ليس من وعد له الجنة التي وصفها، ونعتها كمن وعد له النار التي وصْفُها ما ذكر...
{فيها أنهار من ماء غير آسنٍ} الآية؛ يخبر أنه يكون في الجنة من المياه والخمور والألبان وما ذكر ليس كالتي في الدنيا، لأن المياه في الدنيا تتغير بأحد وجهين: إما لنجاسة وآفة تصيبهما، أو لطول الزمان والمُكث، فيخبر أن ليس في الجنة شيء يُغيّر مياهها، وكذلك اللبن في الدنيا يتغيّر، ويفسُد عن قريب إذا تُرك لما ذُكر، فيُخبر أن ألبان الجنة لا تفسُد للترك، ولا يصيبها شيء، فيُفسِدها، ويُخرجها عن طعم اللبن...
{وأنهار من خمر لذّة للشاربين} يُخبِر أن الخمور في الجنة مما يتلذّذ بها أهلها عند الشرب ليست كخمور الدنيا يتكرّهها أهلها عند شربها، ويعبِسون وجوههم عند التناول منها...
{وأنهار من عسلٍ مُصفّى} أي وأنهار من عسل خُلِق، وأُنشِئ مُصفّى، لا كُدورة فيه، لا أنه كان كدِرًا، فصُفّيَ، أو كان خُلق بعضه كدِرا، وبعضه مُصفّى، ولكن خُلق كله مُصفّى في الابتداء...
{ولهم فيها من كل الثمرات} التي عرفوها في الدنيا، وأرادوها، أو يقول: {ولهم فيها من كل الثمرات} التي يريدون فيها...
{ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسُقوا ماءا حميما فقطّع أمعاءهم} أي ليس من وعد له ما ذكر من الجنة، وهو خالد فيها مُتنعّم بما ذكر من ألوان الثمار والنّعم ما ذكر من المياه والخمور والألبان {كمن هو خالد في النار}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ} كمن هو خالد في النار؟ قلت: هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ودخوله في حيزه، وانخراطه في سلكه، وهو قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِه} فكأنه قيل: أمثل الجنة كمن هو خالد في النار، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أمثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف {كمن هو خالد في النار} فتكون الكاف في قوله: {كمن} مؤكدة في التشبيه، ويجيء قوله: {فيها أنهار} في موضع الحال على هذا التأويل. {وما غير آسن} معناه غير متغير...
{ومغفرة من ربهم} معناه: وتنعيم أعطته المغفرة وسببته، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة...
... قال في الخمر {لذة للشاربين} ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين ولا قال في العسل مصفى للناظرين لأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص، فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر، فقال: {لذة للشاربين} بأسرهم ولأن الخمر كريهة الطعم، فقال: {لذة} أي لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم، وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس...
{ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم}. بعد ذكر المشروب أشار إلى المأكول، ولما كان في الجنة الأكل للذة لا للحاجة ذكر الثمار فإنها تؤكل للذة بخلاف الخبز واللحم...
{كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}... بيان لمخالفتهم في سائر أحوال أهل الجنة فلهم أنهار من ماء غير آسن، ولهم ماء حميم، فإن قيل المشابهة الإنكارية بالمخالفة على ما ثبت...كأنه قال: للمؤمن أكل وشرب مطهر طاهر لا يجتمع في جوفهم فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء حاجة، وللكافر ماء حميم في أول ما يصل إلى جوفهم يقطع أمعاءهم ويشتهون خروجه من جوفهم، وأما الثمار فلم يذكر مقابلها، لأن في الجنة زيادة مذكورة فحققها بذكر أمر زايد.
الماء الحار يقطع أمعاءهم لأمر آخر غير الحرارة، وهي الحدة التي تكون في السموم المدوفة، وإلا فمجرد الحرارة لا يقطع، فإن قيل قوله تعالى: {فقطع} بالفاء يقتضي أن يكون القطع بما ذكر، نقول نعم، لكنه لا يقتضي أن يقال: يقطع، لأنه ماء حميم فحسب، بل ماء حميم مخصوص يقطع.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
واختلف في تعيين كل، فهو منها لماذا يكون ينزل، وبدئ من هذه الأنهار بالماء، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات، ثم باللبن، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم، ثم بالخمر، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم، فهو متأخر في الهيئة...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
{وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} معناه: وتنعيمٌ أعطته المغفرةُ وَسَّبَّبَتْهُ، وإلاَّ فالمغفرة إنَّما هي قبل دخول الجَنَّةِ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مثل الجنة} أي البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها...
. {التي وعد المتقون} أي الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: مقبل عليه بكليته فهو متبع، ومعرض عنه جملة، ومستمع غير منتفع...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى؛ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم. كمن هو خالد في النار، وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم؟).. إن هذه الصورة الحسية من النعيم والعذاب ترد في مواضع من القرآن. وقد تجيء معها صور معنوية أو تجيء مجردة. كما أن صور النعيم والعذاب المجردة عن الحسيات تجيء في مواضع أخرى. والله الذي خلق البشر، أعلم بمن خلق، وأعرف بما يؤثر في قلوبهم، وما يصلح لتربيتهم. ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم. والبشر صنوف، والنفوس ألوان، والطبائع شتى. تلتقي كلها في فطرة الإنسان، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان. ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب، وصنوف المتاع والآلام، وفق علمه المطلق بالعباد.. هنالك ناس يصلح لتربيتهم، ولاستجاشة همتهم للعمل كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه، أو أنهار من عسل مصفى، أو أنهار من خمر لذة للشاربين. أو صنوف من كل الثمرات. مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات.. فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم، وما يليق لجزائهم. وهنالك ناس يعبدون الله لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها. أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب. أو لأنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها. ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة أو إلى نار، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق، وهؤلاء يصلح لهم تربية ويصلح لهم جزاء أن يقول الله لهم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا).. أو أن يعلموا أنهم سيكونون: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)...
والملاحظ عموما أن صور النعيم والعذاب ترق وتشف كلما ترقى السامعون في مراقي التربية والتهذيب على مدى نزول القرآن. وحسب أنواع المخاطبين، والحالات المتنوعة التي كانت تخاطب بالآيات. وهي حالات ونماذج تتكرر في البشرية في جميع الأعصار. وهنا نوعان من الجزاء: هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله. والنوع الآخر: (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم).. وهي صورة حسية عنيفة من العذاب، تناسب جو سورة القتال، وتتناسب مع غلظ طبيعة القوم. وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام. فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ. والجزاء ماء حميم ساخن وتقطيع للأمعاء، التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام! ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء.. بهذا يختم الجولة الأولى التي بدأت بالهجوم عند افتتاح السورة، واستمرت في معركة متصلة، عنيفة، حتى الختام..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من لبن وخَمر وعَسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ، أي مماثلة للأنهار، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مُبهج. ويجوز أن تكون مماثلة هذه الأصناف للأنهار في بعض صفات الأنهار وهي الاستبحار. وهذه الأصناف الخمسة المذكورة في الآية كانت من أفضل ما يتنافسون فيه ومن أعزّ ما يتيسر الحصول عليه، فكيف الكثير منها، فكيف إذا كان منها أنهار في الجنة. وتناولُ هذه الأصناف من التَفَكُّهِ الذي هو تنعم أهل اليسار والرفاهية. وقد ذكر هنا أربعة أشربة هي أجناس أشربتهم، فكانوا يستجيدون الماء الصافي لأن غالب مياههم من الغُدران والأحواض بالبادية تمتلئ من ماء المطر أو من مرور السيول فإذا استقرت أياماً أخذت تتغير بالطحلب وبما يدخل فيها من الأيدي والدلاء، وشرب الوحوش وقليلٌ البلاد التي تكون مجاورة الأنهار الجارية. وكذلك اللبن كانوا إذا حلبوا وشربوا أبقوا ما استفضلوه إلى وقت آخر لأنهم لا يحلبون إلا حَلْبة واحدة أو حلْبتين في اليوم فيقع في طعم اللبن تغيير. فأما الخمر فكانت قليلة عزيزة عندهم لقلة الأعناب في الحجاز إلا قليلاً في الطائف، فكانت الخمر تجتلب من بلاد الشام ومن بلاد اليمن، وكانت غالية الثمن وقد ينقطع جلبها زماناً في فصل الشتاء لعسر السير بها في الطرق وفي أوقات الحروب أيضاً خوف انتهابها. والعسل هو أيضاً من أشربتهم ...
...فأما الثمرات فبعضها كثير عندهم كالتمر وبعضها قليل كالرمان...
والخمر: عصير العنب الذي يترك حتى يصيبه التخمر وهو الحموضة مثل خمير العجين. و {لَذَة} وصفٌ وليس باسم، وهو تأنيث اللذّ، أي اللذيذ...
.والعسل المصفى: الذي خُلِّص مما يخالط العسل من بقايا الشمع وبقايا أعضاء النحل التي قد تموت فيه...
{من كلّ الثمرات} أصناف من جميع أجناس الثمرات، فالتعريف في {الثمرات} للجنس، و {كُلّ} مستعملة في حقيقتها وهو الإحاطة، أي جميع ما خلق الله من الثمرات مما علموه في الدنيا وما لم يعلموه مما خلقه الله للجنة. و {مِن} تبعيضية...
و {مغفرة} عطف على {أنهار} وما بعده، أي وفيها مغفرة لهم، أي تجاوز عنهم...
. {وسُقوا ماءً حميماً} جيء به لمقابلة ما وصف من حال أهل الجنة الذي في قوله: {فيها أنهار من ماء غير آسن} إلى قوله: {من كل الثمرات}، أي أن أهل النار محرومون من جميع ما ذكر من المشروبات. وليسوا بذائقين إلا الماء الحميم الذي يقطع أمعاءهم بفور سقيه. ولذلك لم يعرج هنا على طعام أهل النار الذي ذكر في قوله تعالى: {لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم} [الواقعة: 52- 54] وقوله: {أذلك خير نُزُلاً أم شجرة الزقوم} [الصافات: 62] إلى قوله: {فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم} [الصافات: 66- 67]. وضمير {سقوا} راجع إلى {من هو خالد في النار} باعتبار معنى (من) وهو الفريق من الكافرين بعد أن أعيد عليه ضمير المفرد في قوله: {هو خالد}. والأمعاء: جمع معي مقصوراً وبفتح الميم وكسرها، وهو ما ينتقل الطعام إليه بعد نزوله من المعدة. ويسمى عَفِج بوَزن كَتِف.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنّة، لكلّ منها سائله ومحتواه الخاص، ثمّ تتحدث عن فواكه الجنّة، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية...
(ومغفرة من ربّهم) إذ ستمحو رحمته الواسعة كل هفواتهم وسقطاتهم، وسيمنحهم الله الاطمئنان والهدوء والرضى، ويجعلهم من المرضيين عنده والمحبّبين إليه، وسيكونون مصداق لقوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم)...
وصف آخر للجنّة: إنّ هذه الآية وصف لمصير كلّ من المؤمنين والكافرين، فالفئة الأولى الذين يعملون الصالحات، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم. وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها...
قوله تعالى : " مثل الجنة التي وعد المتقون " لما قال عز وجل : " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات " [ الحج : 14 ] وصف تلك الجنات ، أي صفة الجنة المعدة للمتقين . وقد مضى الكلام في هذا في " الرعد " {[13923]} . وقرأ علي بن أبي طالب " مثال الجنة التي وعد المتقون " . " فيها أنهار من ماء غير آسن " أي غير متغير الرائحة . والآسن من الماء مثل الآجن . وقد أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا إذا تغيرت رائحته . وكذلك أجَنَ الماء يأجُنُ ويأجِنُ أجْنًا وأُجُونًا . ويقال بالكسر فيهما : أجِن وأسِن يأسَن ويأجَن أَسْنًا وأَجْنًا ، قاله اليزيدي . وأسن الرجل أيضا يأسن ( بالكسر لا غير ){[13924]} إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه ، قال زهير :
قد أترك{[13925]} القِرن مصفرًّا أناملُه *** يَمِيدُ في الرمح مَيْدَ المائح الأسِنِ
ويروى " الوسن " . وتأسن الماء تغير . أبو زيد : تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ . أبو عمرو : تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه . وقال اللحياني : إذا نزع إليه في الشبه ، وقراءة العامة " آسن " بالمد . وقرأ ابن كثير وحميد " أسن " بالقصر ، وهما لغتان ، مثل حاذر وحذر . وقال الأخفش : أسن للحال ، وآسن ( مثل فاعل ) يراد به الاستقبال .
قوله تعالى : " وأنهار من لبن لم يتغير طعمه " أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة . " وأنهار من خمر لذة للشاربين " أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها{[13926]} الأيدي كخمر الدنيا ، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون . يقال : شراب لذ ولذيذ بمعنى . واستلذه عده لذيذا . " وأنهار من عسل مصفى " العسل ما يسيل من لعاب النحل . " مصفى " أي من الشمع والقذى ، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل . وفي الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد ] . قال : حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة ] . وقال كعب : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم . وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . والعسل : يذكر ويؤنث . وقال ابن عباس : " من عسل مصفى " أي لم يخرج من بطون النحل . " ولهم فيها من كل الثمرات " " من " زائدة للتأكيد . " ومغفرة من ربهم " أي لذنوبهم . " كمن هو خالد في النار " قال الفراء : المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار . وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار . فقوله : " كمن " بدل من قوله : " أفمن زين له سوء عمله " [ فاطر : 8 ] . وقال ابن كيسان : مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم . ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم . " وسقوا ماء حميما " أي حارا شديد الغليان ، إذا أدنى منهم شوى وجوههم ، ووقعت فَرْوَةُ رؤوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم . والأمعاء : جمع مِعًى ، والتثنية معيان ، وهو جميع ما في البطن من الحوايا .
{ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم }
{ مثل } أي صفة { الجنة التي وعد المتقون } المشتركة بين داخليها مبتدأ خبره { فيها أنهار من ماءٍ غير آسن } بالمد والقصر كضارب وحذر ، أي غير متغير بخلاف ماء الدنيا فيتغير بعارض { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } بخلاف لبن الدنيا لخروجه من الضروع { وأنهار من خمر لذة } لذيذة { للشاربين } بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب { وأنهار من عسل مصفى } بخلاف عسل الدنيا فإنه بخروجه من بطون النحل يخالط الشمع وغيره { ولهم فيها } أصناف { من كل الثمرات ومغفرة من ربهم } فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطاً عليهم { كمن هو خالد في النار } خبر مبتدأ مقدر ، أي أمن هو في هذا النعيم { وسقوا ماء حميماً } أي شديد الحرارة { فقطَّع أمعاءهم } أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم ، وهو جمع معي بالقصر ، وألفه عن ياء لقولهم ميعان .
قوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن } { مثل الجنة } مبتدأ و خبره محذوف . و { مثل الجنة } يعني وصفها ، وهي التي وعدها الله المتقين ، وهم المؤمنون الذين يجتنبون المعاصي والآثام وما يسخط الله ، ويفعلون الطاعات والصالحات وما أمرهم به ربهم . لقد أنعم الله على هؤلاء المؤمنين المتقين بالجنة بوصفها العظيم ، فهي { فيها أنهر من ماء غير آسن } والآسن ، المتغير الرائحة{[4233]} والأنهار من الماء النقي العذب عظيمة المنافع ، عظيمة البهاء والجمال بمنظرها الساحر المثير ، وصورتها المشرقة الخلابة .
قوله : { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } لأنه من لبن الجنة بمذاقه الممتع وطعمه اللذيذ الذي لا يتغير ولا يأتي عليه فساد أو نتن ، كلبن الدنيا . فما في الجنة من خيرات وثمرات وطعوم لهو أكمل وأطيب وأنفع .
قوله : { وأنهار من خمر لذة للشاربين } { لذة } ولذيذه بمعنى{[4234]} ، فقد وصف خمر الجنة بأنها لذيذة الطعم ، طيبة الشرب ، يلتذ بها الشاربون المنعمون في الجنة . وهي ليست كخمر الدنيا التي تستر العقول وتفسد الأعصاب ، وتفضي إلى الأمراض والأسقام البدنية والنفسية الكثيرة .
قوله : { وأنهار من عسل مصفى } العسل ، هو لعاب النحل . وهو شراب نافع وشهي وعظيم الفوائد ، وفيه شفاء للناس . وهو في الجنة مصفى ، أي نقي مما يخالطه من الشمع والقذى والكدر .
قوله تعالى : { ولهم فيها من كل الثمرات } أي خولهم الله في الجنة كل ما يشتهون من الثمرات على اختلاف أنواعها وألوانها وأشكالها وطعومها { ومغفرة من ربهم } فوق ما أنعم الله به على عباده المتقين من عظيم الخيرات وألوان النعيم في الجنة ، قد غفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ، إذ عفا عنهم وتجاوز لهم عن خطاياهم عقب توبتهم وإنابتهم إلى ربهم .
قوله : { كمن هو خالد في النار } يعني ، أفمن هو في الجنة يتنعم في طيباتها وخيراتها ومباهجها ، كمن هو صال النار خالدا في جحيمها ولظالها { وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } أي سقي هؤلاء المعذبون المخلدون في النار ماء حارا شديد الغليان فقطع أمعاءهم إذا شربوه من شدة حرارته{[4235]} .