( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) . .
وقد رأينا كيف حقق ذلك عيد الله بن عيد الله بن أبي ! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز !
( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
ويضم الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه ، ويضفي عليهم من عزته ، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله ! وأي تكريم بعد أن يوقف الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره . ويقول : ها نحن أولاء ! هذا لواء الأعزاء . وهذا هو الصف العزيز !
وصدق الله . فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن . العزة المستمدة من عزته تعالى . العزة التي لا تهون ولا تهن ، ولا تنحني ولا تلين . ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان . فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة . .
( ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل ?
ليُخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ : يعني أن المنافقين هم أصحاب العزة ، والمسلمين هم الأذلاء كما يزعمون .
وهم الذين { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } يعني بذلك عبد الله بن أُبي ومن معه من المنافقين ، { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالله له العزة والغلبة ، ولمن أعزه الله من الرسول الكريم والمؤمنين ، { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } .
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي ، وكان من خيار الصحابة المؤمنين عندما أشرف على المدينة وقف وسلّ سيفه وقال لأبيه : لله عليَّ أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل . فلم يبرح حتى قال عبد الله بن أبيّ ذلك .
القائل ابن أبي كما تقدم . وقيل : إنه لما قال : " ليخرجن الأعز منها الأذل " ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات ، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألبسه قميصه ، فنزلت هذه الآية : " لن يغفر الله لهم " . وقد مضى بيانه هذا كله في سورة " التوبة{[15033]} " مستوفى . وروي أن عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال لأبيه : والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذل ، فقاله . توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع ، فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله .
ودل على عدم فقههم بقوله تعالى : { يقولون } أي يوجدون هذا القول ويجددونه مؤكدين له لاستشعارهم بأن أكثر قومه ينكره : { لئن رجعنا } أي نحن أيتها العصابة المنافقة{[65551]} من غزاتنا هذه - التي قد رأوا فيها من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعجز الوصف وهي غزوة بني المصطلق حي{[65552]} من هذيل بالمريسيع{[65553]} وهو ماء من مياههم من ناحية قديد إلى الساحل وفيها تكلم{[65554]} ابن أبي بالإفك وأشاعه - { إلى المدينة } و{[65555]}دلوا على تصميمهم على عدم المساكنة بقولهم : { ليخرجن الأعز } يعنون أنفسهم { منها الأذل } وهم كاذبون في هذا ، لكنهم تصوروا لشدة غباوتهم أن العزة لهم وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين { ولله } أي والحال أن{[65556]} كل من له{[65557]} نوع بصيرة يعلم أن للملك{[65558]} الأعلى الذي له وحده عز الإلهية { العزة } كلها ، فهو قهار لمن دونه وكل ما عداه دونه{[65559]} .
ولما حصر{[65560]} العزة بما دل على ذلك من تقديم المعمول ، أخبر أنه يعطي منها من أراد وأحقهم بذلك من أطاعه فترجم ذلك بقوله : { ولرسوله } لأن{[65561]} عزته من عزته بعز النبوة والرسالة وإظهار الله دينه على الدين كله ، {[65562]}وكذلك أيضاً أن العزة لمن أطاع الرسول بقوله{[65563]} : { وللمؤمنين } أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً لأن عزتهم بعزة الولاية ، ونصر الله إياهم عزة لرسولهم صلى الله عليه وسلم ، ومن تعزز بالله لم يلحقه ذل .
ولما كان جهلهم في هذا أشد لكثرة ما رأوا من نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن تابعه رضي الله عنهم وإعلائهم على كل من ناواهم ، قال منبهاً على ذلك : { ولكن المنافقين } أي الذين استحكم فيهم مرض القلوب .
ولما كانت الدلائل على عزة الله لا تخفى على أحد لما تحقق من قهره للملوك وغيرهم بالموت الذي لم يقدر{[65564]} أحد على الخلاص منه ولا المنازعة فيه ، ومن المنع من أكثر المرادات ، ومن نصر الرسول وأتباعهم بإهلاك أعدائهم بأنواع الهلاك ، وبأنه سبحانه ما قال شيئاً إلا تم ولا قالت الرسل شيئاً إلا صدقهم فيه ، ختم الآية بالعلم الأعم من الفقه فقال : { لا يعلمون * } أي لا {[65565]}لأحد لهم{[65566]} علم الآن ، ولا يتجدد في حين من الأحيان ، فلذلك{[65567]} هم يقولون مثل هذا الخراف ، وروي{[65568]} أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن{[65569]} سلول الذي نزلت بسببه إلى أبيه ، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقة أبيه وقال : أنت والله الذليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ، ولما دنوا من المدينة الشريفة جر سيفه وأتى أباه فأخذ بزمام ناقته . وزجرها إلى ورائها وقال : إياك وراءك والله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولئن لم تقر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنت الأذل لأضربن عنقك ، قال : أفاعل أنت ؟ قال : نعم ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وشكا ولده{[65570]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يدعه{[65571]} يدخل المدينة ، فأطلقه فدخل .
{ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون }
{ يقولون لئن رجعنا } أي من غزوة بني المصطلق { إلى المدينة ليخرجن الأعز } عنوا به أنفسهم { منها الأذل } عنوا به المؤمنين { ولله العزة } الغلبة { ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } ذلك .