وفي ظلال هذا الحادث الذي كان وقعه عميقا في نفوس المسلمين ، يهيب القرآن بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم من التربية والتوجيه والتذكير ، في قوا أنفسهم وأهليهم من النار . ويرسم لهم مشهدا من مشاهدها . وحال الكفار عندها . وفي ظلال الدعوة إلى التوبة التي وردت في سياق الحادث يدعو الذين آمنوا إلى التوبة ، ويصور لهم الجنة التي تنتظر التائبين . ثم يدعو النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى جهاد الكفار والمنافقين . . وهذا هو المقطع الثاني في السورة :
( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ، وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون . يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون . يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا ، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير . يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، ومأواهم جهنم وبئس المصير ) . .
إن تبعة المؤمن في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة . فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله ، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك . إنها نار . فظيعة متسعرة : ( وقودها الناس والحجارة ) . . الناس فيها كالحجارة سواء . في مهانة الحجارة وفي رخص الحجارة ، وفي قذف الحجارة . دون اعتبار ولا عناية . وما أفظعها نارا هذه التي توقد بالحجارة ! وما أشده عذابا هذا الذي يجمع إلى شدة اللذع المهانة والحقارة ! وكل ما بها وما يلابسها فظيع رهيب : ( عليها ملائكة غلاظ شداد ) . تتناسب طبيعتهم مع طبيعة العذاب الذي هم به موكلون . . ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) . . فمن خصائصهم طاعة الله فيما يأمرهم ، ومن خصائصهم كذلك القدرة على النهوض بما يأمرهم . . وهم بغلظتهم هذه وشدتهم موكلون بهذه النار الشديدة الغليظة . وعلى المؤمن أن يقي نفسه وأن يقي أهله من هذه النار . وعليه أن يحول بينها وبينهم قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار . فها هم أولاء الذين كفروا يعتذرون وهم عليها وقوف ، فلا يؤبه لاعتذارهم ، بل يجبهون بالتيئيس :
قُوا أنفسكم : احفظوها ، و اجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي .
الوقود : حطب النار وكل ما توقد به .
الحجارة : الأصنام التي تعبد من دون الله .
بعد أن عالجت الآياتُ السابقة ما يجري في بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعاتَبَ الله تعالى الرسولَ الكريم على تحريمه بعضَ ما أحلّ الله له ، كما شدّد على نسائه أن يلتزمن الطاعةَ والتوبة والإخلاصَ للرسول الكريم ، بيّن هنا للمؤمنين عامةً أن يحفظوا أنفسَهم وأهلِيهم من النار بالتزامِ طاعةِ الله ورسوله ، تلك النار التي سيكون وقودُها يومَ القيامة العصاةَ من الناس والحجارةَ التي كانت تُعبَد من دونِ الله كما قال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، ويقومُ على أمر هذه النار ملائكةٌ شديدون ، يفعلون
قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " فيه مسألة واحدة وهي الأمر بوقاية الإنسان نفسه وأهله النار . قال الضحاك : معناه قوا أنفسكم ، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا . وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم . وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم . ابن العربي : وهو الصحيح ، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل ، كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا{[15151]}
ورأيتُ زوجك في الوغى *** متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية . ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ) . وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله : يأمرهم وينهاهم . وقال بعض العلماء لما قال : " قوا أنفسكم " دخل فيه الأولاد ؛ لأن الولد بعض منه . كما دخل في قوله تعالى : " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم{[15152]} " [ النور : 61 ] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات . فيعلمه الحلال والحرام ، ويجنبه المعاصي والآثام ، إلى غير ذلك من الأحكام . وقال عليه السلام : ( حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ ) . وقال عليه السلام : ( ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن ) . وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ( مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ) . خرجه جماعة من أهل الحديث . وهذا لفظ أبي داود . وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ) . وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب ، مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال . وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول : ( قومي فأوتري يا عائشة ) . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء . رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء ) . ومنه قوله صلي الله عليه وسلم : ( أيقظوا صواحب الحجر ) . ويدخل هذا في عموم قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى{[15153]} " [ المائدة : 2 ] . وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟ . فقال : ( تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله ) . وقال مقاتل : ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه . قال الكيا : فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب . وهو قوله تعالى : " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها{[15154]} " [ طه : 132 ] . ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : " وأنذر عشيرتك الأقربين{[15155]} " . [ الشعراء : 214 ] . وفي الحديث : ( مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ) .
قوله تعالى : " وقودها الناس والحجارة " " تقدم في سورة " البقرة " القول فيه{[15156]} . " عليها ملائكة غلاظ شداد " يعني الملائكة الزبانية غلاط القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب . " شداد " أي شداد الأبدان . وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال . وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم . يقال : فلان شديد على فلان ، أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب . وقيل : أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم ، وبالشدة القوة . قال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة ، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم . وذكر ابن وهب قال : وحدثنا عبدالرحمن بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم : ( ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ) .
قوله تعالى : " لا يعصون الله ما أمرهم " أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان . " ويفعلون ما يؤمرون " أي في وقته ، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه . وقيل أي لذتهم في امتثال أمر الله ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة ، ذكره بعض المعتزلة . وعندهم أنه يستحيل التكيف غدا . ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا ، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة . ولله أن يفعل ما يشاء .
{ قوا أنفسكم وأهليكم نارا } أي : أطيعوا الله وأمروا أهلكم بطاعته لتقوا أنفسكم وأهليكم بطاعته من النار فعبر بالمسبب وهو وقاية النار عن السبب وهو الطاعة { وقودها } ذكر في البقرة . { ملائكة غلاظ شداد } يعني : زبانية النار وغلظهم وشدتهم يحتمل أن يريد في إجرامهم وفي قساوة قلوبهم .
{ ويفعلون ما يؤمرون } قيل : إن هذا تأكيد لقوله : { لا يعصون الله } ، وقيل : إن معنى لا يعصون امتثال الأمر ، ومعنى يفعلون ما يؤمرون جدهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس .