من أجل هذا دعا نوح - عليه السلام - دعوته الماحقة الساحقة . ومن أجل هذا استجاب الله دعوته ، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر ؛ وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير .
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول : ( ولا تزد الظالمين إلا تبارا )- أي هلاكا ودمارا - إلى جانب هذا كان الإبتهال الخاشع الودود :
( رب اغفر لي ولوالدي ، ولمن دخل بيتي مؤمنا ، وللمؤمنين والمؤمنات . . . ) . .
ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له . . هو الأدب النبوي الكريم في حضرة الله العلي العظيم . . أدب العبد في حضرة الرب . العبد الذي لا ينسى أنه بشر ، وأنه يخطئ ، وأنه يقصر ، مهما يطع ويعبد ، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله بفضله ، كما قال أخوه النبي الكريم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه ، فاستكبروا عليه . . وهو هو النبي يستغفر بعد كل هذا الجهد وكل هذا العناء . يستغفر وهو يقدم لربه سجل الحساب !
ودعاؤه لوالديه . . هو بر النبوة بالوالدين المؤمنين - كما نفهم من هذا الدعاء - ولو لم يكونا مؤمنين لروجع فيهما كما روجع في شأن ولده الكافر الذي أغرق مع المغرقين [ كما جاء في سورة هود ] .
ودعاؤه الخاص لمن دخل بيته مؤمنا . . هو بر المؤمن بالمؤمن ؛ وحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه ، وتخصيص الذي يدخل بيته مؤمنا ، لأن هذه كانت علامة النجاة ، وحصر المؤمنين الذين سيصحبهم معه في السفينة .
ودعاؤه العام بعد ذلك للمؤمنين والمؤمنات . . هو بر المؤمن بالمؤمنين كافة في كل زمان ومكان . وشعوره بآصرة القربى على مدار الزمن واختلاف السكن . وهو السر العجيب في هذه العقيدة التي تربط بين أصحابها برباط الحب الوثيق ، والشوق العميق ، على تباعد الزمان والمكان . السر الذي أودعه الله هذه العقيدة ، وأودعه هذه القلوب المربوطة برباط العقيدة . .
وفي مقابل هذا الحب للمؤمنين ، كان الكره للظالمين .
( ولا تزد الظالمين إلا تبارا ) .
وتختم السورة ، وقد عرضت تلك الصورة الوضيئة لجهاد النبي الكريم نوح عليه السلام . وتلك الصورة المطموسة لإصرار المعاندين الظالمين . . وقد تركت هذه وتلك في القلب حبا لهذا الروح الكريم وإعجابا بهذا الجهاد النبيل ، وزادا للسير في هذا الطريق الصاعد ، أيا كانت المشاق والمتاعب . وأيا كانت التضحيات والآلام . فهو الطريق الوحيد الذي ينتهي بالبشرية إلى أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض . حين ينتهي بها إلى الله ، العلي الأعلى ، الجليل العظيم . .
ثم طلب نوح الغفرانَ لنفسه ولأبوَيه وللمؤمنين والمؤمنات ، وأعادَ الدعاءَ على الكافرين مرّةً أخرى فقال : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } .
أي : خُسراناً وبُعداً من رحمتك . أما سيدُنا محمد الرسولُ العربي الكريم فإنه لم يَدْعُ على قومه بل دَعا لهم أكثرَ من مرَةٍ وكان يقول : « اللهمّ اهدِ قومي فإنهم
لا يَعلمون » وقد استجابَ له . ونسأل اللهَ تعالى أن يهديَ العربَ إلى سَواء الطريق ويجمع كلمتَهم ، ويوحّد صفوفَهم ليواجهوا عدوَّهم المشترك ، وأن يقوّوا صِلَتَهم بجميع المسلمين { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } [ الشورى : 29 ] .
{ رب اغفر لي ولوالدي } واسم أبيه : لمك بن متوشلخ ، واسم أمه : سمحاء بنت أنوش ، وكانا مؤمنين ، { ولمن دخل بيتي } داري ، { مؤمنا } ، وقال الضحاك والكلبي : مسجدي . وقيل سفينتي ، { وللمؤمنين والمؤمنات } هذا عام في كل من آمن بالله وملائكته وصدق الرسل ، { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } هلاكاً ودماراً ، فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم .
قوله تعالى : " رب اغفر لي ولوالدي " دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين . وهما : لمك{[15414]} بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش ؛ ذكره القشيري والثعلبي . وحكى الماوردي في اسم أمه منجل . وقال سعيد بن جبير : أراد بوالديه أباه وجده . وقرأ سعيد بن جبير " لوالدي " بكسر الدال على الواحد . قال الكلبي : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون . وقال ابن عباس : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام . " ولمن دخل بيتي مؤمنا " أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله . وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالمغفرة . وقد قال النبي . صلي الله عليه وسلم : ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ) الحديث . وقد تقدم . وهذا قول ابن عباس : " بيتي " مسجدي ، حكاه الثعلبي وقاله الضحاك . وعن ابن عباس أيضا : أي ولمن دخل ديني ، فالبيت بمعنى الدين ، حكاه القشيري وقاله جويبر . وعن ابن عباس أيضا : يعني صديقي الداخل إلى منزلي ، حكاه الماوردي . وقيل : أراد داري . وقيل سفينتي . " وللمؤمنين والمؤمنات " عامة إلى يوم القيامة ، قاله الضحاك . وقال الكلبي : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من قومه ، والأول أظهر . " ولا تزد الظالمين " أي الكافرين . " إلا تبارا " إلا هلاكا ، فهي عامة في كل كافر ومشرك . وقيل : أراد مشركي قومه . والتبار : الهلاك . وقيل : الخسران ، حكاهما السدي . ومنه قوله تعالى : " إن هؤلاء متبر ما هم فيه{[15415]} " [ الأعراف : 139 ] . وقيل : التَّبَار الدمار ، والمعنى واحد . والله أعلم بذلك . وهو الموفق للصواب .
قوله : { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا } دعا نوح ربه أن يغفر له ولكل مؤمن دخل مسجده أو سفينته أو بيته . وذلك هو شأن المؤمنين المتقين فإنهم لا يتخذون من غير المؤمنين الصادقين أصدقاء وخلاّنا . وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي " .
قوله : { وللمؤمنين والمؤمنات } دعا ربه أن يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات إلى يوم القيامة .
قوله : { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } دعا الله على قومه الظالمين العتاة أن لا يزيدهم غير الهلاك والخسار في الدنيا والآخرة ، وذلك لفرط عتوّهم وطغيانهم وشدة عنادهم وإعراضهم عن دين الله وإضلالهم الناس{[4649]} .