ثم نلقي بأبصارنا - من خلال الكلمات - إلى الفريق الآخر . فماذا نحن واجدون ? إنه التأنيب الطويل ، والتشهير المخجل ، والتذكير بشر الأقوال والأعمال :
( وأما الذين كفروا . أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فاستكبرتم ، وكنتم قوماً مجرمين ? وإذا قيل : إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها . قلتم : ما ندري ما الساعة ! إن نظن إلا ظنا ، وما نحن بمستيقنين ) !
قوله تعالى : " وإذا قيل إن وعد الله حق " أي البعث كائن . " والساعة لا ريب فيها " وقرأ حمزة " والساعة " بالنصب عطفا على " وعد " . الباقون بالرفع على الابتداء ، أو العطف على موضع " إن وعد الله " . ولا يحسن على الضمير الذي في المصدر ؛ لأنه غير مؤكد ، والضمير المرفوع إنما يعطف عليه بغير تأكيد في الشعر . " قلتم ما ندري ما الساعة " هل هي حق أم باطل . " إن نظن إلا ظنا " تقديره عند المبرد : إن نحن إلا نظن ظنا . وقيل : التقدير : إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا . وقيل : أي وقلتم إن نظن إلا ظنا " وما نحن بمستيقنين " أن الساعة آتية .
{ وإذا } أي وكنتم إذا { قيل } {[58355]}من أيّ قائل كان ولو على سبيل التأكيد : { إن وعد الله } الذي {[58356]}كل أحد يعلم{[58357]} أنه محيط بصفات الكمال { حق } أي ثابت لا محيد عنه يطابقه الواقع من البعث وغيره ؛ لأن أقل الملوك لا يرضى بأن{[58358]} يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى {[58359]}فكيف إذا{[58360]} كان الإخلاف فيه مناقضاً للحكمة { والساعة } التي هي مما وعد به وهي محط الحكمة فهي أعظم ما تعلق به الوعد { لا ريب فيها } بوجه من الوجوه ؛ لأنها محل إظهار الملك لما له من الجلال والجمال أتم إظهار { قلتم } راضين لأنفسكم بحضيض الجهل : { ما ندري } أي الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه { ما الساعة } أي نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا{[58361]} به من أحوالها .
ولما كان أمرها مركوزاً في الفطر لا يحتاج إلى كبير نظر ، بما يعلم كل أحد من تمام قدرة الله تعالى ، فمتى نبه عليها نوع تنبيه سبق إلى القلب علمها ، سموا{[58362]} ذلك ظناً عناداً واستكباراً ، فقالوا مستأنفين في جواب من{[58363]} كأنه يقول : أفلم تفدكم{[58364]} تلاوة هذه الآيات البينات {[58365]}علماً بها{[58366]} : { إن } أي ما { نظن } أي نعتقد ما تخبروننا به عنها { إلا ظناً } وأما وصوله إلى درجة العلم فلا . ولما كان المحصور لا بد وأن يكون أخص من المحصور فيه{[58367]} كان الظن الأول بمعنى الاعتقاد ، ولعله عبر عنه بلفظ الظن تأكيداً لمعنى الحصر ، ولذلك عطفوا عليه - تصريحاً بالمراد ؛ لأن الظن قد يطلق على العلم - قولهم : { وما نحن } وأكدوا النفي فقالوا : { بمستيقنين * } أي بموجود{[58368]} عندنا اليقين في أمرها ولا بطالبين له{[58369]} - هذا مع ما تشاهدونه من الآيات في الآفاق وفي أنفسكم وما يبث من دابة وما ينبهكم على ذلك من الآيات-{[58370]} المسموعة ، وهذا لا ينافي آية-{[58371]} { إن هي إلا-{[58372]} حياتنا الدنيا } لأن آخرها مثبت للظن ، فكأنهم كانوا تارة يقوى عندهم ما في جبلاتهم وفطرهم الأولى من أمرها فيظنونها ، و{[58373]}تارة تقوى{[58374]} عليهم الحظوظ مع ما يقترن بها من الشبه المبنية على الجهل فيظنون عدمها فيقطعون به{[58375]} لما للنفس إليه من الميل ، أو كانوا فرقتين - والله أعلم .
{ وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين }
{ وإذا قيل } لكم أيها الكفار { إن وعد الله } بالبعث { حق والساعة } بالرفع والنصب { لا ريب } شك { فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن } ما { نظن إلا ظناً } قال المبرد : أصله إن نحن إلا نظن ظناً { وما نحن بمستيقنين } أنها آتية .
قوله تعالى : { وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين 32 وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون 33 وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين 34 ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون 35 فللّه الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين 36 وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } .
يبين الله في ذلك حال المشركين من الشك والارتياب في الساعة وهم في ذلك غير موقنين ، فهم بذلك صائرون إلى النار بسبب تكذيبهم وعدم يقينهم من هذه الحقيقة الساطعة الكبرى وهي الساعة . فقال سبحانه : { وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها } الساعة تقرأ بالرفع على أنها مبتدأ . وتقرأ بالنصب على العطف على اسم إنّ {[4198]} .
والمعنى : إذا قيل لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث والمعاد : إن وعد الله بإحياء الموتى وبعثهم من قبورهم أحياء وعد حق ، والساعة آتية لا شك فيها ، والناس مجموعون ليوم الحساب ، فكان جوابهم أن قالوا : { ما ندري ما الساعة } أي لا نعرف الساعة ولا ندري أحق هي أم باطل ، فهم بذلك مرتابون متحيرون . وقالوا أيضا : { إن نظن إلا ظنا } أي نظن قيام الساعة إلا ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين { وما نحن بمستيقنين } أي لسنا على يقين أن الساعة جائية أو أنها تكون .