ونوه الله بتقواهم ، وغضهم أصواتهم عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في تعبير عجيب :
( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . لهم مغفرة وأجر عظيم ) . .
فالتقوى هبة عظيمة ، يختار الله لها القلوب ، بعد امتحان واختبار ، وبعد تخليص وتمحيص ، فلا يضعها في قلب إلا وقد تهيأ لها ، وقد ثبت أنه يستحقها . والذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد اختبر الله قلوبهم وهيأها لتلقي تلك الهبة . هبة التقوى . وقد كتب لهم معها وبها المغفرة والأجر العظيم .
إنه الترغيب العميق ، بعد التحذير المخيف . بها يربي الله قلوب عباده المختارين ، ويعدها للأمر العظيم . الذي نهض به الصدر الأول على هدى من هذه التربية ونور .
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء فقال : أتدريان أين أنتما ? ثم قال : من أين أنتما ? قالا : من أهل الطائف . فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا !
وعرف علماء هذه الأمة وقالوا : إنه يكره رفع الصوت عند قبره [ صلى الله عليه وسلم ] كما كان يكره في حياته[ صلى الله عليه وسلم ] احتراما له في كل حال .
امتحنَ الله قلوبهم : طهّرها ونقاها وأخلصها للتقوى .
ثم نوه الله تعالى بتقواهم ، وغضّهم أصواتَهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير لطيف فقال :
{ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .
هنا يرغّبهم الله ويتلطف بهم بعد ذلك التحذير المخيف ، ويقول : إن الذين يخفضون أصواتهم في مجلس رسول الله ، إجلالاً له ، أولئك قد طهّر الله قلوبهم ونقّاها وأخلصَها للتقوى ، فلهم مغفرةٌ لذنوبهم ، وأجر عظيم لتأدّبهم وغضّ أصواتهم وتقواهم .
ثم مدح من غض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى ، أي : ابتلاها واختبرها ، فظهرت نتيجة ذلك ، بأن صلحت قلوبهم للتقوى ، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم ، المتضمنة لزوال الشر والمكروه ، والأجر العظيم ، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى ، وفي الأجر العظيم وجود المحبوب{[795]} وفي هذا ، دليل على أن الله يمتحن القلوب ، بالأمر والنهي والمحن ، فمن لازم أمر الله ، واتبع رضاه ، وسارع إلى ذلك ، وقدمه على هواه ، تمحض وتمحص للتقوى ، وصار قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك ، علم أنه لا يصلح للتقوى .
قوله تعالى : " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له ، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له . قال أبو هريرة : لما نزلت " لا ترفعوا أصواتكم " قال أبو بكر رضي الله عنه : والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السِّرَارِ{[14061]} . وذكر سنيد قال : حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال : لما نزلت : " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " [ الحجرات : 1 ] قال أبو بكر : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السِّرَارِ . وقال عبد الله بن الزبير : لما نزلت : " لا ترفعوا أصواتكم " ما حدث عمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض ، فنزلت : " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " . قال الفراء : أي أخلصها للتقوى . وقال الأخفش : أي اختصها للتقوى . وقال ابن عباس : " امتحن الله قلوبهم للتقوى " طهرهم من كل قبيح ، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى . وقال عمر رضي الله عنه : أذهب عن قلوبهم الشهوات . والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته . فمعنى أمتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى . وعلى الأقوال المتقدمه : امتحن قلوبهم فأخلصها ، كقولك : امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت . ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام ، وهو الإخلاص . وقال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته . وأنشد :
أتتْ رذايا باديًا كَلاَلها *** قد محنت واضطربت آطالُها{[14062]}
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم }
ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وغيرهما رضى الله عنهم :
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن } اختبر { الله قلوبهم للتقوى } أي لتظهر منهم { لهم مغفرة وأجر عظيم } الجنة ، ونزل في قوم جاءُوا وقت الظهيرة والنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في منزله فنادوه .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 ) }
إن الذين يَخْفِضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين اختبر الله قلوبهم ، وأخلصها لتقواه ، لهم من الله مغفرة لذنوبهم وثواب جزيل ، وهو الجنة .
قوله : { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } { يغضون } من الغض : وهو الخفض{[4281]} . وذلك إطراء من الله للمؤمنين الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتكريما ، واستحياء منه وتعظيما ، سواء كان خطابهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أو كانوا يخاطبون غيره بين يديه .
قوله : { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي أخلص قلوبهم للتقوى وجعل فيها الخوف من الله { لهم مغفرة وأجر عظيم } يعفو الله لهم عن ذنوبهم ويجزيهم خير الجزاء وهو الجنة{[4282]} .