ومن ثم يدعوهم إلى السباق في ميدان السباق الحقيقي ، للغاية التي تستحق السباق . الغاية التي تنتهي إليها مصائرهم ، والتي تلازمهم بعد ذلك في عالم البقاء :
( سابقوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم ) . .
فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق ، وتركوا عالم اللهو اللعب للأطفال والصغار ! إنما السباق إلى ذلك الأفق ، وإلى ذلك الهدف ، وإلى ذلك الملك العريض : ( جنة عرضها كعرض السماء والأرض ) . .
وربما كان بعضهم في الزمن الخالي - قبل أن تكشف بعض الحقائق عن سعة هذا الكون - يميل إلى حمل مثل هذه الآية على المجاز ، وكذلك حمل بعض الأحاديث النبوية . كذلك الحديث الذي أسلفنا عن أصحاب الغرف التي يتراءاها سكان الجنة كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب . . فأما اليوم ومراصد البشر الصغيرة تكشف عن الأبعاد الكونية الهائلة التي ليس لها حدود ، فإن الحديث عن عرض الجنة ، والحديث عن تراءي الغرف من بعيد ، يقع قطعا موقع الحقيقة القريبة البسيطة المشهودة ، ولا يحتاج إلى حمله على المجاز إطلاقا ! فإن ما بين الأرض والشمس مثلا لا يبلغ أن يكون شيئا في أبعاد الكون يقاس !
وذلك الملك العريض في الجنة يبلغه كل من أراد ، ويسابق إليه كل من يشاء . وعربونه : الإيمان بالله ورسله . ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) . . ( والله ذو الفضل العظيم ) . . وفضل الله غير محجوز ولا محجور . فهو مباح متاح للراغبين والسابقين . وفي هذا فليتسابق المتسابقون ، لا في رقعة الأرض المحدودة الأجل المحدودة الأركان !
ولا بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير ؛ ولا يحصر نفسه ونظره وتصوره واهتمامه ومشاعره في عالم الأرض الضيق الصغير . . لا بد له من هذا ليؤدي دوره اللائق بصاحب العقيدة . هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم ، كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس . ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الأرض ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة ، وأوسع من هذه الأرض ، وأبقى من ذلك الفناء . .
إن مقاييس هذه الأرض وموازينها لا تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب العقيدة . وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إلا بقدر ما يبلغ حجم الأرض بالقياس إلى حجم الكون ؛ وما يبلغ عمر الأرض بالقياس إلى الأزل والأبد . والفارق هائل هائل لا تبلغ مقاييس الأرض كلها أن تحدده ولا حتى أن تشير إليه !
ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الأرض الصغير . مهما تضخم هذا الواقع وامتد واستطال . يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا الواقع الصغير . ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الأزل والأبد . وفي ملك الآخرة الواسع العريض . وفي القيم الإيمانية الثابتة التي لا تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا الصغيرة الخادعة . . وتلك وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها ، لا للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها . . .
ثم بعد أن بين الله أن الآخرة قريبة ، فيها العذابُ والنعيم ، حثَّ إلى المبادرة إلى فعل الخيرات فقال : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ . . . . }
تسابَقوا أيها المؤمنون ، في عملِ الخير ، حتى تنالوا مغفرة من ربكم ، وتدخلوا جنةً سعتُها كسعة السماء والأرض ، هُيئت للذين آمنوا واتقَوا ربهم ، { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } فهو واسعُ العطاء عظيم الفضل ، يُعطي من يشاء بغير حساب .
ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان بالله ورسله{[993]} يدخل فيه أصول الدين وفروعها ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا لكم فيه الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن فضل الله بالثواب الجزيل والأجر العظيم{[994]} من أعظم منته على عباده وفضله . { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الذي لا يحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده{[995]} .
ولما بين أن الدنيا خيال ومحال ليصرف الكملة من العباد عنها لسفولها وحقارتها ، وأن الآخرة بقاء وكمال ليرغبوا غاية الرغبة فيها وليشتاقوا كل{[62575]} الاشتياق لكمالها وشرفها وجلالها ، أنتج ذلك قوله تعالى : { سابقوا } أي افعلوا في السعي{[62576]} لها بالأعمال الصالحة حق السعي فعل من يسابق شخصاً فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه ، ولكن ربما كان قرينه بطيئاً فسار هويناً ، وأما المسارعة فلا تكون إلا بجهد النفس من الجانبين مع السرعة في العرف ، فآية آل عمران الآمرة بالمسارعة الأخص من المسابقة{[62577]} أبلغ لأنها للحث على التجرد عن النفس والمال وجميع الحظوظ أصلاً ورأساً ، ولذلك كانت جنتها للمتقين الموصوفين . وأما هذه ففي سياق التصديق الذي هو تجرد عن فضول الأموال ولذلك كانت جنته{[62578]} للذين آمنوا .
ولما كان المقام عظيماً ، والإنسان - وإن بذل الجهد - ضعيفاً ، لا يسعه إلا العفو سواء كان سابقاً أو لاحقاً من الأبرار والمقربين ، نبه على ذلك بقوله في السابقين ؛ { إلى مغفرة } أي ستر{[62579]} لذنوبكم عيناً وأثراً { من ربكم } أي المحسن إليكم بأن رباكم وطوركم بعد الإيجاد بأنواع الأسباب بأن تفعلوا أسباب ذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب زواجره . ولما كان المقصود من المغفرة ما يترتب عليها من نتيجتها قال : { وجنة } أي وبستان هو من عظم أشجارها واطراد أنهارها بحيث يستر داخله . ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالسعة قال : { عرضها } أي فما ظنك بطولها . ولما كان السياق كما بين للتجرد عن فضول الأموال فقط لأن الموعود به دون ما في آل عمران فأفرده وصرح بالعرض فقال : { كعرض السماء والأرض } أي لو وصل بعضها ببعض ، فآية آل عمران تحتمل الطول وجميع السماوات والأرض على هيئتها ، ويحتمل أن يكون ذلك على تقدير أن تقد{[62580]} كل واحدة منهما ويوصل رأس{[62581]} كل قدة برأس الأخرى ، وتمتد جميع القدات إلى نهايتها على مثل الشراك ، وهذه الآية ظاهرها{[62582]} عرض واحد وأرض واحدة { أعدت } أي هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر { للذين آمنوا } أي أوقعوا هذه الحقيقة وهم من هذه الأمة إيقاعاً لا ريب معه ولو أنه على أدنى الوجوه فكانوا من السابقين ، وهذا يدل على أن الجنة موجودة الآن في آيات كثيرة ، وأن الإيمان كاف في استحقاقها ، وأحاديث الشفاعة مؤيدة لذلك { بالله } أي الذي له جميع العظمة لأجل ذاته{[62583]} مخلصين له بالإيمان { ورسله } فلم يفرقوا بين أحد منهم ، فهذه الجنة غير مذكورة في آل عمران ، وإن قيل : إن السماء هنا للجنس لكون السياق فيه الصديقون والشهداء كانت أبلغته تلك بالتصريح بالجمع وعدم التصريح بالعرض لكونها في سياق صرح فيه بالجهاد ، وقد جرت السنة الإلهية بإعظام المواعيد للمجاهدين لشدة الخطر في أمر النفس وصعوبة الخروج عنها وعن جميع المألوفات .
ولما كان من ذكر من الوعد بالمغفرة والجنة عظيماً لا سيما لمن آمن ولو كان إيمانه على أعلى الدرجات ومع{[62584]} التجرد من جميع الأعمال ، عظمه بقوله رداً على من يوجب عليه سبحانه شيئاً من ثواب أو عقاب : { ذلك } أي الأمر العظيم جداً { فضل الله } أي الملك الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه { يؤتيه من يشاء } ولعل التعبير بالمضارع للإشارة إلى هذا خاص بهذه الأمة التي هي أقل عملاً وأكثر أجراً ، فإذا حسدهم أهل الكتاب قال تعالى : هل{[62585]} ظلمتكم من أمركم شيئاً ، فإذا قالوا : لا ، لأن المصروف من الأجر لجميع الطوائف على حسب الشرط ، قال : ذلك فضلي أوتيه من أشاء . { والله } أي والحال أن الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله { ذو الفضل العظيم * } أي الذي جل عن أن يحيط بوصفه العقول .
قوله : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } يعني بادروا بالتوبة إلى الله واعملوا الصالحات وافعلوا الطاعات ، وذلك يقتضي المغفرة لكم من ربكم { وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } أي لو وصل بعضها ببعض لكانت في امتدادها مثل عرض الجنة التي وعدها المؤمنون المتقون وهو قوله : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } .
قوله : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } الإشارة عائدة إلى الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض فإنها فضل من الله تفضل به على المؤمنين والله يؤتي فضله من يشاء من عباده وهو المتفضّل العظيم{[4464]} .