في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد :

( وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة ) . .

إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها ؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها . ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة . حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم !

هذه الوجوه الناضرة . . نضرها أنها إلى ربها ناظرة . .

إلى ربها . . ? ! فأي مستوى من الرفعة هذا ? أي مستوى من السعادة ?

إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس ، تراها في الليلة القمراء . أو الليل الساجي . أو الفجر الوليد . أو الظل المديد . أو البحر العباب . أو الصحراء المنسابة . أو الروض البهيج . أو الطلعة البهية . أو القلب النبيل . أو الإيمان الواثق . أو الصبر الجميل . . إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود . . فتغمرها النشوة ، وتفيض بالسعادة ، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة . وتتوارى عنها أشواك الحياة ، وما فيها من ألم وقبح ، وثقلة طين وعرامة لحم ودم ، وصراع شهوات وأهواء . .

فكيف ? كيف بها وهي تنظر - لا إلى جمال صنع الله - ولكن إلى جمال ذات الله ?

ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله . ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله . ليملك الإنسان نفسه ، فيثبت ، ويستمتع بالسعادة ، التي لا يحيط بها وصف ، ولا يتصور حقيقتها إدراك !

( وجوه يومئذ ناضرة . . إلى ربها ناظرة ) . .

ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر ?

إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض . من طلعة بهية ، أو زهرة ندية ، أو جناح رفاف ، أو روح نبيل ، أو فعل جميل . فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه ، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة . فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال . مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال ? فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام ، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال ! كل شائبة لا فيما حولها فقط ، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله . .

فأما كيف تنظر ? وبأي جارحة تنظر ? وبأي وسيلة تنظر ? . . فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني ، في القلب المؤمن ، والسعادة التي يفيضها على الروح ، والتشوف والتطلع والانطلاق !

فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة ? ويشغلونها بالجدل حول مطلق ، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته ? !

إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة ، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك . وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور - مجرد تصور - كيف يكون ذلك اللقاء .

وإذن فقد كان جدلا ضائعا ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام .

لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض ؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض ؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال .

إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة . فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات . فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان . فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات ، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا ! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات ? !

فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ ، وفيض الفرح المقدس الطهور ، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك . ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض ؛ فهذا التطلع ذاته نعمة . لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم . .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

ناظرة : تنظر إلى ربها .

تنظُر إلى ربها عِياناً بلا حجاب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : تنظر إلى ربها{[1296]}  على حسب مراتبهم : منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا ، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة ، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم ، وجماله الباهر ، الذي ليس كمثله شيء ، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالا إلى جمالهم ، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم .


[1296]:- في ب: أي ينظرون إلى ربهم.
 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

{ إلى ربها ناظرة } تنظر إلى خالقها عيانا

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

" إلى ربها " إلى خالقها ومالكها " ناظرة " من النظر أي تنظر إلى ربها ، على هذا جمهور العلماء . وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في " يونس " عند قوله تعالى : " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة{[15630]} " [ يونس : 26 ] . وكان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ؛ ثم تلا هذه الآية : " وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة " وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال : تنظر إلى ربها نظرا . وكان الحسن يقول : نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم .

وقيل : إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب . وروي عن ابن عمر ومجاهد . وقال عكرمة : تنتظر أمر ربها . حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا . وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده . واحتجوا بقوله تعالى : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " [ الأنعام : 103 ] وهذا القول ضعيف جدا ، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار . وفي الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " قال هذا حديث غريب . وقد روى عن ابن عمرو ولم يرفعه . وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) . وروى جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا ، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : ( إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) . ثم قرأ " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب " متفق عليه . وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح . وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه ؟ قال ابن معاذ : مخليا به يوم القيامة ؟ قال : ( نعم يا أبا رزين ) قال : وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : ( يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ) قال ابن معاذ : ليلة البدر مخليا به . قلنا : بلى . قال : ( فالله أعظم ) ( قال ابن معاذ قال{[15631]} ) : ( فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم ) . وفي كتاب النسائي عن صهيب قال : ( فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ، ولا أقر لأعينهم ) وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ يتجلى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه ، فيخرون له سجدا ، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة ]

قال الثعلبي : وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه ، فتأويل مدخول ؛ لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته ، كما قال تعالى : " هل ينظرون إلا الساعة " [ الزخرف : 66 ] ، " هل ينظرون إلا تأويله " [ الأعراف : 53 ] ، و " ما ينظرون إلا صيحة واحدة " [ يس : 49 ] وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى ، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان . وقال الأزهري : إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ ؛ لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذلك تقوله العرب ؛ لأنهم يقولون نظرت إليه : إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته ؛ قال :

فإنكما إن تَنْظُرانِي ساعةً *** من الدهر تنفعْنِي لدَى أمِّ جُنْدُبِ

لما أراد الانتظار قال تنظراني ، ولم يقل تنظران إلي ، وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه ، قال :

نظرت إليها والنُّجُومُ كأنها *** مصابيحُ رُهْبَانٍ تُشَبُّ لقُفَّال{[15632]}

وقال آخر :

نظرت إليها بالمُحَصَّبِ من مِنًى *** ولي نَظَرٌ{[15633]} لولا التَّحَرُّجُ عَارِمُ

وقال آخر :

إني إليك لِمَا وَعَدتَ لناظرٍ *** نظرَ الفقيرِ إلى الغنيِّ المُوسرِ

أي إني أنظر إليك بذل ؛ لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول ، فأما ما استدلوا به من قوله تعالى : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " [ الأنعام : 103 ] فإنما ذلك في الدنيا . وقد مضى القول{[15634]} فيه في موضعه مستوفى . وقال عطية العوفي : ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، ونظره يحيط بها ؛ يدل عليه : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " [ الأنعام : 103 ] قال القشيري أبو نصر : وقيل : " إلى " واحد الآلاء : أي نعمه منتظرة ، وهذا أيضا باطل ؛ لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء ، ثم الآلاء : نعمه الدفع{[15635]} ، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم ، والمنتظر للشيء متنغص العيش ، فلا يوصف أهل الجنة بذلك . وقيل : أضاف النظر إلى الوجه ؛ وهو كقوله تعالى : " تجري من تحتها الأنهار " [ المائدة : 119 ] والماء يجري في النهر لا النهر . ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين ؛ قال الله تعالى : " فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " [ يوسف : 93 ] أي على عينيه . ثم لا يبعد قلب العادة غدا ، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه ، وهو كقوله تعالى : " أفمن يمشي مكبا على وجهه " [ الملك : 22 ] ، فقيل : يا رسول الله ! كيف يمشون في النار على وجوههم ؟ قال : ( الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ) .


[15630]:راجع جـ 8 ص 330.
[15631]:الزيادة من مسند أبي داود.
[15632]:تشب: توقد. والقفال جمع قافل وهو الراجع من السفر. البيت من قصيدة لامرئ القيس.
[15633]:في نسخ الأصل نظرة، والصواب ما ذكرنا كما في ديوان قائله، وهو عمر بن ربيعة.
[15634]:راجع جـ 7 ص 54.
[15635]:هكذا في كل الأصول.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

قوله : { إلى ربها ناظرة } ناضرة من النّضرة ، بوزن البصرة . يعني الحسن والرونق . نضر وجهه ينضر أي حسن{[4701]} وفي الحديث " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها " والمعنى : وجوه يوم القيامة حسنة جميلة تعلوها النضرة والصّباحة من فرط النعومة والبهاء وأولئك هم المؤمنون الفائزون برضوان الله والجنة . فإن أعظم ما يبتهجون به ويحبرون أن ينظروا إلى نور الله الساطع المشعشع فقد روي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يتجلّى ربنا عز وجل حتى ينظروا إلى وجهه فيخرجون له سجدا فيقول : ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة " .


[4701]:مختار الصحاح ص 664.