في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون

هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ، والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها ؛ ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .

وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية . .

يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئا من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : ( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . .

وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه ؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون : أئنا لمردودون في الحافرة ? أئذا كنا عظاما نخرة ? قالوا : تلك إذا كرة خاسرة ! فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة . .

ومن هنالك . . من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور . . يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئا ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى : اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل : هل لك إلى أن تزكى ? وأهديك إلى ربك فتخشى ? فأراه الآية الكبرى ، فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى ، فحشر فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى . . وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .

ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء ? بناها ، رفع سمكها فسواها ، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ؛ والأرض بعد ذلك دحاها ، أخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها ، متاعا لكم ولأنعامكم ) . .

وهنا - بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية - يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى ، وبرزت الجحيم لمن يرى ! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) . .

وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ، والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . . في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ? فيم أنت من ذكراها ? إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) . . والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل !

( والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا ) . قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعا شديدا .

/خ5

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون ، نزلت بعد سورة النبأ . وقد بُدئت بالقَسم بأصناف من المخلوقات على إمكان البعث ووقوعه ، وأن الناس سيبعثون إلى ربهم ، في يوم تعظم فيه الأهوال وتضطرب القلوب ، وتخشع الأبصار . . ومع هذا كله يقول الجاحدون منكرين البعث : هل لنا عودة إلى الحياة ، بعد أن نكون عظاما بالية ! هذا شيء باطل ، وإن صح ما يقال عن البعث فنحن إذا خاسرون . ورد الله تعالى عليهم بأن الرجعة ليست عسيرة ، وإنما هي صيحة واحدة ، فإذا جميع الناس بأرض المحشر .

ثم يلتفت الحديث إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويقص عليه قصة موسى وفرعون وما آل أمره إليه ، وفي ذلك عظة لمن يخاف الله .

ثم يوجه الكلام إلى أولئك المنكرين ، فيقول لهم : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها . . . } أمَا خلق هذا الكون العجيب المنتظم وما فيه من الخيرات { متاعا لكم ولأنعامكم } ؟

فإذا قامت القيامة الكبرى ، ففي ذلك اليوم { يتذكر الإنسان ما سعى } ، ويكون الناس فريقين : سعداء وأشقياء . أما المؤمنون العاملون فإن مأواهم الجنة ، يتمتعون فيها بأعظم نعيم . وأما الأشقياء فمأواهم جهنم .

ثم يتوجه الحديث إلى الرسول الكريم . . يسألك الجاحدون يا محمد عن الساعة متى تكون ؟ فلا تشغلْ نفسك بها ، فإلى ربك منتهى علم الساعة ، وإنما أنت رسول مبعوث للإنذار وتحذير الناس من المعاصي . ويوم يشاهدون القيامة يظنون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار عشية أو ضحاها من شدة ذهولهم .

النازعات : الملائكة ، أو الكواكب .

غرقاً : بشدة .

لقد جاء في القرآن الكريم ضروبٌ من القسَم بالأزمنة والأمكنة وبعض الأشياء ، ولو استعرضْنا جميع ما أقسم الله به لوجدناه إما شيئاً أنكره بعضُ الناس ، أو احتقره لغفْلتِه عن فائدته ، أو ذُهل من موضع العبرة فيه ، ولم ينتبه إلى حكمة الله في خَلْقه أو اعتقدَ فيه غيرَ الحق . فاللهُ سبحانه يقسِم به إما لتقرير وجودهِ في عقلِ من يُنكره ، أو تعظيمِ شأنِه في نفسِ من يحتقرُه .

فالقسَم بالنجوم ، جاء لأن قوماً يحقّرونها لأنها من جُملة عالَم المادّة ويغفلون عن حكمة الله فيها وما ناطَ بها من المصالح ، وآخرين يعتقدونها آلهة تتصرّف في هذه الأكوان ، فأقسَمَ اللهُ بها على أنها من المخلوقات التي تعرفُها القدرة الإلهية ، وليس فيها شيء من صفات الألوهية .

ولقد بدأ اللهُ سبحانه هذه السورة بالحَلْف بأصنافٍ من مخلوقاته ، إظهاراً لإتقان صُنعها وغزارة فوائدها بأن البعثَ حق ، وأن من قَدر على صُنعِ هذا الكونِ وما فيه لهو قادرٌ على إحياء الموتى .

فأقسَم بالنازعاتِ ، وهي الملائكةُ التي تنزع أرواح الكافرين بشدّة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلنَّـٰزِعَٰتِ غَرۡقٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النازعات وهي مكية

{ 1 - 14 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ }

هذه الإقسامات بالملائكة الكرام ، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله ، وإسراعهم في تنفيذ أمره ، يحتمل أن المقسم عليه ، الجزاء والبعث ، بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك ، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به متحدان ، وأنه أقسم على الملائكة ، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة ، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة عند الموت وقبله وبعده ، فقال : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة ، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح ، فتجازى بعملها .