ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم . وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .
وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه : " على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . . فلما كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء ، فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، يفتن في دينهن وهن ضعاف .
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور . على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة ، فلا يكون تخلصا من زواج مكروه ، ولا طلبا لمنفعة ، ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام !
قال ابن عباس : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك .
وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله ، ولا سبيل للبشر إليها : ( الله أعلم بإيمانهن . . )فإذا ما أقررن هكذا ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) . .
( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) . .
فقد أنبتت الوشيجة الأولى . . وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .
وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد . فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعن حملهن ? وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة ?
( وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) .
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه :
( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ) . .
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .
علِمتموهن مؤمنات : تيقنتم من إيمانهنّ .
فلا تَرجعُوهن إلى الكفار : لا ترجعوهن إلى أزواجهن الكفار .
وآتوهم ما أنفقوا : أعطوا الأزواج الكفار ما دفعوا من مهور لزوجاتهم .
ولا جناح عليكم : لا إثم عليكم .
ولا تمسكوا بعصَم الكوافر : لا تبقوا النساء الكافرات على عصمتكم وأبطلوا عقد الزواج بهن .
واسألوا ما أنفقتم : اطلبوا كل ما دفعتم لهن من مهر وغيره .
ولْيسألوا ما أنفقوا : وليطلبوا هم ( يعني الكفار ) ما أنفقوا على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن إليكم .
في اتفاق صلح الحديبية جاء نص يقول : إن من جاء محمدا من قريش بغير إذنِ وليّه ردّه إليه ، ومن جاء قريشا من المسلمين لم تردّه إليهم . . ومضى العهد بين الطرفين على أتمّه .
ثم جاءت نساء مؤمنات مهاجرات ، وكانت أُولاهن أُم كلثوم بنتَ عقبة بن أبي معيط الأموية . فقدِم أخواها عمار والوليد ، فكَلّما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرِها ليردها إلى قريش ، فنزلت هذه الآية . فلم يردّها الرسول الكريم وزوّجها زيدَ بن حارثة ، ثم تزوجها الزبير بن العوام بعد استشهاد زيد ، فولدت له زينب ، ثم فارقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميدا ، ثم توفي عنها فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهرا وتوفيت رحم الله الجميع .
فتبين من عمل النبي عليه الصلاة والسلام أن العهدَ كان يشمل الرجال دون النساء ، والله تعالى يقول :
{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فإذا تبين لكم أنهنّ صادقات في إيمانهن فلا يجوز أن تردوهن إلى الكفار ، لأنهن : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
{ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .
أعطوا الأزواج الكافرين ما أنفقوا من مهرٍ وغيره على زوجاتهم المهاجرات إليكم ، ولا حرج عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إذا دفعتم إليهن مهورهن .
{ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
إذا بقيت زوجةٌ من الزوجات في دار الكفر ولم تسلم فلا تتمسكوا بعقد زواجها وأبطِلوه . كذلك إذا لحقت زوجة بدار الكفر فأبطِلوا عقدها ، فإنها تعتبر طالقة .
{ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } إذا كان لكم مهر عند زوجة في دار الكفر فلكم أن تطلبوه ، وإذا جاءت زوجة أحد الكفار وأسلمت وهاجرت فعلى من تزوَّجها أن يدفع ما عليها لزوجها السابق .
{ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } هذا التشريع هو حكم الله ، يحكم به بينكم ، فاتبعوه ولا تخالفوه ، والله عليم بمصالح عباده ، حكيم في كل ما يفعل .
قرأ أبو عمرو وأهل البصرة : ولا تمسكوا بفتح التاء وبتشديد السين المفتوحة . والباقون : ولا تمسكوا بضم التاء وإسكان الميم وكسر السين . وأمسك ومسَّك لغتان .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } الآية نزلت بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد إلى أهل مكة من جاء من المؤمنين منهم ، فأنزل الله في النساء إذا جئن مهاجرات أن يمتحن وهو قوله { فامتحنوهن } وهو أن تستحلف ما خرجت بغضا لزوجها ولا عشقا لرجل من المسلمين وما خرجت إلا رغبة في الاسلام فإذا حلفت لم ترد إلى الكفار وهو قوله :{ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } لأن المسلمة لا تحل للكافر وقوله :{ وآتوهم } يعني أزواجهم الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر ، { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن وان كان لهن أزواج كفار في دار الاسلام لأن الاسلام أبطل تلك الزوجية ، { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أي لا تمسكوا بنكاحهن فان العصمة لا تبقى بين المشركة والمؤمن والمعنى ان لحقت بالمشركين واحدة من نسائكم فلا تتمسكوا بنكاحها ، { واسألوا ما أنفقتم } عليهن من المهر من يتزوجهن من الكفار { وليسألوا } يعني المشركين ، { ما أنفقوا } من المهر فلما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون ذلك فنزلت .
الأولى : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات } لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء . قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية ، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها وكان كافرا - وهو صيفي بن الراهب . وقيل : مسافر المخزومي - فقال : يا محمد ، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك ! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقيل : جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها . وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ردها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( كان الشرط في الرجال لا في النساء ) فأنزل الله تعالى هذه الآية . وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل ، يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك . وقيل : إن التي جاءت أميمة بنت بشر ، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر ، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبدالله ، قال زيد بن حبيب . كذا قال الماوردي : أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ . وقال المهدوي : وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف . وهي امرأة حسان بن الدحداح ، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف . وقال مقاتل : إنها سعيدة{[14903]} زوجة صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة . والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة .
الثانية- واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما ؟ فقالت طائفة منهم : قد كان شرط ردهن في عقد المهادنة لفظا صريحا فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه ، وبقَّاه في الرجال على ما كان . وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه{[14904]} في الأحكام ، ولكن لا يقره الله على خطأ . وقالت طائفة من أهل العلم : لم يشترط ردهن في العقد لفظا ، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال . فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه . وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم . الثاني : أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم . فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم .
الثالثة- قوله تعالى : { فامتحنوهن } قيل : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهن . واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاث أقوال : الأول : قال ابن عباس : كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقا لرجل منا ، بل حبا لله ولرسوله . فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك ، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } . الثاني : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، قاله ابن عباس أيضا . الثالث : بما بينه في السورة بعد من قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } [ الممتحنة : 12 ] قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال الله : { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } [ الممتحنة : 12 ] رواه معمر عن الزهري عن عائشة . خرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح .
الرابعة- أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا ، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما ، فنسخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن . وقال بعض العلماء : كله منسوخ في الرجال والنساء ، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما ؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز . وهذا مذهب الكوفيين ، وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك . وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية ، وقال " أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى نارهما{[14905]} ) قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بريء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ . قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره ، لأنه يلي الأموال كلها . فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود .
الخامسة- قوله تعالى : { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر . { فإن علمتموهن مؤمنات } أي بما يظهر من الإيمان . وقيل : إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } أي لم يحل الله مؤمنة لكافر ، ولا نكاح مؤمن لمشركة .
وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لا هجرتها . وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين . وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة . والصحيح الأول ؛ لأن الله تعالى قال : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام وليس باختلاف الدار والله أعلم . وقال أبو عمر : لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس ، وإنما المراعاة في ذلك الدينان ، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما ، لا بالدار . والله المستعان .
السادسة- قوله تعالى : { وآتوهم ما أنفقوا } أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام ، أمر برد المال إليه حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .
السابعة- ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا . فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع . وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا ؛ لأنه لا قيمة له . وللشافعي في هذه الآية قولان : أحدهما : أن هذا منسوخ ، قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الإمام في دار السلام أو في دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض . وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان : أحدهما : يعطي العوض ، والقول ما قال الله عز وجل ، وفيه قول آخر : أنه لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العوض . فإن شرط{[14906]} الإمام رد النساء كان الشرط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه عوض ؛ لأن الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل .
الثامنة- أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف . وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق . والأمر كما قاله{[14907]} .
التاسعة- قوله تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة . فإن أسلمت قبل الدخول{[14908]} ثبت النكاح في الحال ولها التزوج .
العاشرة- { إذا آتيتموهن أجورهن } أباح نكاحها بشرط المهر{[14909]} ؛ لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر .
الحادية عشرة- قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك . وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } [ البقرة : 231 ] . وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو " ولا تمسكوا " مشددة من التمسك . يقال : مسك يمسك تمسكا ، بمعنى أمسك يمسك . وقرئ " ولا تمسكوا " بنصب التاء ، أي لا تتمسكوا . والعصم جمع العصمة ، وهو ما اعتصم به . والمراد بالعصمة هنا النكاح . يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها ، فليست له امرأة ، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ، وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك{[14910]} في هذه الآية . فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين : قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة . وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبدالله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما . فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قُرَيْبَة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك ، فأبى معاوية من ذلك . وكانت عند طلحة بن عبيدالله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ، فحبسها وزوجها خالدا . وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب ابنته - وكانت كافرة - من أبي العاص بن الربيع ، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها .
ذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال : أسلمت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى ، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبدالعزى مشرك بمكة . الحديث . وفيه : أنه أسلم بعدها . وكذلك قال الشعبي . قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع ، فأسلمت ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى زوجها المدينة فأمنته ، فأسلم فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس : بالنكاح الأول ، ولم يحدث شيئا . قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين . وقال الحسن بن علي : بعد سنتين . قال أبو عمر : فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقول الله عز وجل : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " [ البقرة : 228 ] يعني في عدتهن . وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عني به العدة . وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه : كان قبل أن تنزل الفرائض . وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة " التوبة " بقطع العهود بينهم وبين المشركين . والله اعلم .
الثانية عشرة- قوله تعالى : { بعصم الكوافر } المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها ، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب . وقيل : هي عامة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب . ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه . وعلى القول الأول إذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهذا قول بعض أهل العلم . ومنهم من قال : ينتظر بها تمام العدة ، فمن قال يفرق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تسلم - مالك بن أنس . وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، واحتجوا بقوله تعالى : " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " . وقال الزهري : ينتظر بها العدة . وهو قول الشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه بمر الظَّهْران{[14911]} ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضال . ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقرا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت . قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما . قال الشافعي : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عز وجل : { ولا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ثم بينت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة . وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذميين : إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما . قالوا : ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الإسلام . وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار ، وليس بشيء . وقد تقدم .
الثالثة عشرة- هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها ، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافا في انقطاع العصمة بينهما ؛ إذ لا عدة عليها . كذا يقول مالك في المرأة ترتد زوجها مسلم : انقطعت العصمة بينهما . وحجته { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي . ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة .
الرابعة عشرة- فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضا اختلاف . ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة . وهو قول مجاهد . وكذا الوثني تسلم زوجته ، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، على حديث ابن شهاب ، ذكره مالك في الموطأ . قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر . قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها ، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها . ومن العلماء من قال : ينفسخ النكاح بينهما . قال يزيد بن علقمة : أسلم جدي ولم تسلم جدتي ففرق عمر بينهما رضي الله عنه ، وهو قول طاوس . وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا : لا سبيل عليها إلا بخطبة .
الخامسة عشرة- قوله تعالى : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها . ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها . وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين . وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة ، قاله ابن العربي .
السادسة عشرة- { ذلكم حكم الله } أي ما ذكر في هذه الآية هو حكم الله ، { يحكم بينكم والله عليم حكيم } . تقدم في غير موضع{[14912]} .