( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? ) . .
والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول . فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون ?
والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة . . صورة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يسأل الرسل قبله عن هذه القضية : ( أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? )وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول . وهي صورة طريفة حقاً . وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب .
وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والرسل قبله . وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان . . ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة . حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد . وهي كفيلة ان تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة ؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين . . وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب . .
على أنه بالقياس إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب . فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود ، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار . حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود . تتجلى وحدة متصلة ، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة . وهنا يسأل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويجاب ، بلا حاجز ولا حجاب . كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج .
وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا . فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي . ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره ، حين نهتدي إلى طرف من قانونه . وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات . فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شيء آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام !
وفي سياق تسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره ؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا . تجيء حلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان ، وتساؤله في فخر وخيلاء : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? ) . . وانتفاخه على موسى - عبدالله ورسوله - وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ? ) . . واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون : ( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ) . .
وكأنما هي نسخة تكرر ، أو اسطوانة تعاد !
ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة ؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى - عليه السلام - وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات ، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء .
ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) . .
وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون !
ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق . كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق ، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض ؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون !
قوله تعالى : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " قال ابن عباس وابن زيد : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو مسجد بيت المقدس - بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين ، وجبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأذن جبريل صلى الله عليه وسلم ثم أقام الصلاة ، ثم قال : يا محمد تقدم فصل بهم ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل صلى الله عليه وسلم : [ سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ] . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لا أسأل قد اكتفيت ] . قال ابن عباس : وكانوا سبعين نبيا منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم . في غير رواية ابن عباس : فصلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة صفوف ، المرسلون ثلاثة صفوف والنبيون أربعة ، وكان يلي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خليل الله ، وعلى يمينه إسماعيل وعلى يساره إسحاق ثم موسى ثم سائر المرسلين فأمهم ركعتين ، فلما انفتل{[13646]} قام فقال : [ إن ربي أوحى إلي أن أسألكم هل أرسل أحد منكم يدعو إلى عبادة غير الله ] ؟ فقالوا : يا محمد ، إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة أن لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل ، وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين ، قد استبان ذلك لنا بإمامتك إيانا ، وأن لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى ابن مريم فإنه مأمور أن يتبع أثرك ) .
وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " قال : لقي الرسل ليلة أسري به . وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " قال : سألت عن ذلك وليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال : سألهم ليلة أسري به ، لقي الأنبياء ولقي آدم ومالك خازن النار .
قلت : هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية . و " من " التي قبل " رسلنا " على هذا القول غير زائدة . وقال المبرد وجماعة من العلماء : إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا . وروي أن في قراءة ابن مسعود : " واسال الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا " . وهذه قراءة مفسرة ، ف " من " على هذا زائدة ، وهو قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن وابن عباس أيضا . أي واسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل . وقيل : المعنى سلنا يا محمد عن الأنبياء الذين أرسلنا قبلك ؛ فحذفت " عن " ، والوقف على " رسلنا " على هذا تام ، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار . وقيل : المعنى واسأل تباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا ، فحذف المضاف . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته .
قوله تعالى : " أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " أخبر عن الآلهة كما أخبر عمن يعقل فقال : " يعبدون " ولم يقل تعبد ولا يعبدن ؛ لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فأجرى الخبر عنهم مجرى الخبر عمن يعقل .
وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك ، فأمره الله بسؤال الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير ، لا لأنه كان في شك منه .
واختلف أهل التأويل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين : أحدهما : أنه سألهم فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد ، قاله الواقدي . الثاني : أنه لم يسألهم ليقينه بالله عز وجل ، حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل : ( هل سألك محمد عن ذلك ؟ فقال جبريل : هو أشد إيمانا وأعظم يقينا من أن يسأل عن ذلك ) . وقد تقدم هذا المعنى في الروايتين حسبما ذكرناه .
قوله : { وسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرّحمان آلهة يعبدون } يعني سل المؤمنين من أهل الكتابين ، التوراة والإنجيل : هل جاءتهم رسلهم إلا بالتوحيد وعبادة الله وحده . والمراد التأكيد على أن جميع الرسل قد دعوا إلى ما دعوت أنت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة الأصنام والأنداد{[4142]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.