( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ) . . وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم . المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا ، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها .
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ؛ وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها ، فتنمو الحياة وتتجدد ، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة ، فلا ينحرفون عن طريقها ، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى .
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان ، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة ، التي لا حرمان فيها ، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .
( وأحسن كما أحسن الله إليك ) . . فهذا المال هبة من الله وإحسان . فليقابل بالإحسان فيه . إحسان التقبل وإحسان التصرف ، والإحسان به إلى الخلق ، وإحسان الشعور بالنعمة ، وإحسان الشكران .
( ولا تبغ الفساد في الأرض ) . . الفساد بالبغي والظلم . والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة . والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء والفساد بإنفاق المال في غير وجه أو إمساكه عن وجهه على كل حال .
قوله تعالى : " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة " أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة . فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي
" ولا تنس نصيبك من الدنيا " اختلف فيه . فقال ابن عباس والجمهور : لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك ؛ إذ الآخرة إنما يعمل لها ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة . وقال الحسن وقتادة : معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ، ونظرك لعاقبة دنياك فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الأمر الذي يشتهيه وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة . قاله ابن عطية .
قلت : وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله : احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . وعن الحسن : قدم الفضل ، وأمسك ما يبلغ . وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف . وقيل : أراد بنصيبه الكفن فهذا وعظ متصل . كأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن ونحو هذا قول الشاعر :
نصيبُك مما تجمع الدهرَ كلَّه *** رداءان تُلْوَى فيهمَا وحَنُوطُ
وهي القناعة لا تبغي بها بدلا *** فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير القطن والكفن
قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال ، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا .
" وأحسن كما أحسن الله إليك " أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك ومنه الحديث : ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) وقيل : هو أمر بصلة المساكين قال ابن العربي : فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله . وقال مالك : الأكل والشرب من غير سرف . قال ابن العربي : أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف . فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء ، ويشرب العسل ، ويستعمل الشواء ، ويشرب الماء البارد وقد مضى هذا المعنى في غير موضع . " ولا تبغ الفساد في الأرض " أي لا تعمل بالمعاصي " إن الله لا يحب المفسدين " .
ولما كان ترك الفرح سبباً للزهد ، وهو سبب القرب إلى الله ، كان كأنه قيل : وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين { وابتغ } أي اطلب طلباً تجهد نفسك فيه { فيما آتاك الله } أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك { الدار الآخرة } بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفاً له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حياً بذلك الابتغاء ، فلا يكون منه شيء بغير حياة ، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال ، وكل ما فيها إلى زوال ، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال .
ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا : { ولا تنس } أي تترك ترك الناسي { نصيبك من الدنيا } ترك المنسي ، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها ، وليكن استعمالك لذلك - كما دل عليه السياق - من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف ؛ وعن علي رضي الله عنه : ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة .
ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد ، وكانت النفس مجبولة على الشره ، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير ، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا : { وأحسن } أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج ، والإنفاق في جميع الطاعات { كما أحسن الله } أي الجامع لصفات الكمال ، المتردي برداء العظمة والجلال { إليك } بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك .
ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف ، قالوا : { ولا تبغ } أي لا ترد إرادة ما { الفساد في الأرض } بتقتير ولا تبذير ، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير ، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا ، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب ، فقيل : { إن الله } أي العالم بكل شيء ، القدير على كل شيء { لا يحب المفسدين* } أي لا يعاملهم معاملة من يحبه ، فلا يكرمهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.