وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة ، يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق ؛ المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب :
أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده ? إن ذلك على الله يسير . قل : سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ، ثم الله ينشى ء النشأة الآخرة ، إن الله على كل شيء قدير ، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء ، وإليه تقلبون . وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي ، وأولئك لهم عذاب أليم . .
إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه . خطاب دليله هذا الكون ؛ ومجاله السماء والأرض ؛ على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضا لآيات الإيمان ودلائله ؛ وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب ، تبحث فيها عن آيات الله ، وترى دلائل وجوده ووحدانيته ، وصدق وعده ووعيده . ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدا لا تغيب عن إنسان . ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة ؛ ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار . فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة ، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي ، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر ، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها . ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر ، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولاحركة . . تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه ، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق . .
أو لم يروا كيف يبدى ء الله الخلق ? ثم يعيده . إن ذلك على الله يسير . .
وإنهم ليرون كيف يبدى ء الله الخلق . يرونه في النبتة النامية . وفي البيضة والجنين ، وفي كل ما لم يكن ثم يكون ؛ مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه ! وإن سر الحياة وحده لمعجز ، كان وما يزال ؛ معجز في معرفة منشئه وكيف جاء - ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه - ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدى ء الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم ، وهم يرون ولا يملكون الإنكار !
فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم ؛ فالذي أنشأه يعيده :
وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى . ولكنه يقيس للبشر بمقاييسهم . فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم . وإلا فالبدء كالإعادة ، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله سبحانه . وإنما هو توجه الإرادة وكلمة : كن فيكون . .
قوله تعالى : " أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق " قراءة العامة بالياء على الخبر والتوبيخ لهم ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم . قال أبو عبيد : لذكر الأمم كأنه قال أو لم ير الأمم كيف ، وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي : " تروا " بالتاء خطابا ؛ لقوله : " وإن تكذبوا " . وقد قيل : " وإن تكذبوا " خطاب لقريش ليس من قول إبراهيم . " ثم يعيده " يعني الخلق والبعث وقيل : المعنى أو لم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبدا وكذلك يبدأ خلق والإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا وخلق من الولد ولدا وكذلك سائر الحيوان أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة " إن ذلك على الله يسير " لأنه إذا أراد أمر قال له كن فيكون .
ولما كان التقدير : ألم تروا إلى مصارعهم ؟ واتساق الحال في أمرهم ؟ فيكفيكم ذلك زاجراً ، عطف عليه للدلالة على الرجوع إليه منكراً قوله : { أو لم يروا } بالخطاب في قراءة حمزة والكسائي وفي رواية عن أبي بكر عن عاصم جرياً على النسق السابق ، وبالغيب للباقين ، إعراضاً للإيذان بالغضب { كيف يبدئ الله } أي الذي له كل كمال { الخلق } أي يجدد إبداءه في كل لحظة ، وهو بالضم من أبدأ ، وقرىء بالفتح من بدأ ، وهما معاً بمعنى الإنشاء من العدم ؛ قال القزاز : أبدأت الشيء أبدئه إبداء - إذا أنشأته ، والله المبدىء أي الذي بدأ الخلق ، يقال : بدأهم وأبدأهم ، وفي القاموس : بدأ الله الخلق : خلقهم كأبدأ . ورؤيتهم للإبداء موجودة في الحيوان للإبداء والإعادة في النبات ، ولا فرق في الإعادة بين شيء وشيء فيكون قوله - { ثم يعيده } أي يجدد إعادته في كل لمحة - معطوفاً على { يبدئ } ولو لم يكن كذلك لكان عطفه عليه من حيث إن مشاهدة حال الابتداء جعلت مشاهدة لحال الإعادة من حيث إنه لا فرق ، ولا حاجة حينئذ إلى تكلف عطفه على الجملة من أولها . ثم حقر أمره بالنسبة إلى عظيم قدرته ، فقال ذاكراً نتيجة الأمر السابق : { إن ذلك } أي الإبداء والإعادة ، وأكد لأجل إنكارهم { على الله يسير* } لأنه الجامع لكل كمال ، المنزه عن كل شائبة نقص .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.