في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ كَيۡفَ يُبۡدِئُ ٱللَّهُ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥٓۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (19)

14

وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة ، يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق ؛ المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب :

أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده ? إن ذلك على الله يسير . قل : سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ، ثم الله ينشى ء النشأة الآخرة ، إن الله على كل شيء قدير ، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء ، وإليه تقلبون . وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي ، وأولئك لهم عذاب أليم . .

إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه . خطاب دليله هذا الكون ؛ ومجاله السماء والأرض ؛ على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضا لآيات الإيمان ودلائله ؛ وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب ، تبحث فيها عن آيات الله ، وترى دلائل وجوده ووحدانيته ، وصدق وعده ووعيده . ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدا لا تغيب عن إنسان . ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة ؛ ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار . فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة ، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي ، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر ، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها . ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر ، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولاحركة . . تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه ، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق . .

أو لم يروا كيف يبدى ء الله الخلق ? ثم يعيده . إن ذلك على الله يسير . .

وإنهم ليرون كيف يبدى ء الله الخلق . يرونه في النبتة النامية . وفي البيضة والجنين ، وفي كل ما لم يكن ثم يكون ؛ مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه ! وإن سر الحياة وحده لمعجز ، كان وما يزال ؛ معجز في معرفة منشئه وكيف جاء - ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه - ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدى ء الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم ، وهم يرون ولا يملكون الإنكار !

فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم ؛ فالذي أنشأه يعيده :

( إن ذلك على الله يسير ) . .

وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى . ولكنه يقيس للبشر بمقاييسهم . فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم . وإلا فالبدء كالإعادة ، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله سبحانه . وإنما هو توجه الإرادة وكلمة : كن فيكون . .