وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم . هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول . ومن ثم يقال لهم :
( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ) . .
يومكم هذا الحاضر . فنحن في المشهد في اليوم الآخر . . ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم ، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت . ذوقوا ( إنا نسيناكم ) . . والله لا ينسى أحدا . ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين ، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء .
( وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) . .
ويسدل الستار على المشهد . وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه . وترك المجرمون لمصيرهم المهين . ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك ، وكأنهم شاخصون حيث تركهم ! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب .
قوله تعالى : " فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا " فيه قولان : أحدهما : أنه من النسيان الذي لا ذكر معه ، أي لم يعملوا لهذا اليوم فكانوا بمنزلة الناسين . والآخر : أن " نسيتم " بما تركتم ، وكذا " إنا نسيناكم " . واحتج محمد بن يزيد بقوله تعالى : " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " {[12668]} [ طه :115 ] قال : والدليل على أنه بمعنى ترك أن الله عز وجل أخبر عن إبليس أنه قال : " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين " {[12669]} [ الأعراف : 20 ] فلو كان آدم ناسيا لكان قد ذكره . وأنشد :
كأنه خارجا من جَنْبِ صفحَتِهِ *** سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عند مُفْتَأَدِ{[12670]}
أي تركوه . ولو كان من النسيان لكان قد عملوا به مرة . قال الضحاك : " نسيتم " أي تركتم أمري . يحيى بن سلام : أي تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم . " نسيناكم " تركناكم من الخير . قاله السدي . مجاهد : تركناكم في العذاب . وفي استئناف قوله : " إنا نسيناكم " وبناء الفعل على " إن " واسمها تشديد في الانتقام منهم . والمعنى : فذوقوا هذا ، أي ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم بسبب نسيان الله . أو ذوقوا العذاب المخلد ، وهو الدائم الذي لا انقطاع له في جهنم . " بما كنتم تعملون " يعني في الدنيا من المعاصي . وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوما ، لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم . قال عمر بن أبي ربيعة :
فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنها *** فسادٌ ألا يا رُبَّما كذب الزعم
الجوهري : وذقت ما عند فلان ، أي خبرته . وذقت القوس إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها . وأذاقه الله وبال أمره . قال طفيل :
فذوقوا كما ذقنا غداةَ مُحَجَّرٍ *** من الغيظ في أكبادنا والتَّحَوُّبُ
وتذوقته أي ذقته شيئا بعد شيء . وأمر مستذاق أي مجرب معلوم . قال الشاعر :
وعهد الغانيات كعهد قَيْنٍ *** وَنَتْ عنه الجعائل مُسْتَذَاقِ
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص عن عذابهم ، قال مجيباً{[54748]} لترققهم إذ ذاك نافياً لما {[54749]}قد يفهمه كلامهم من أنه{[54750]} محتاج إلى العبادة : { فذوقوا } أي{[54751]} ما كنتم تكذبون به منه بسبب ما حق مني من القول { بما } أي بسبب ما { نسيتم لقاء يومكم } وأكده{[54752]} وبين لهم{[54753]} بقوله : { هذا } أي عملتم - في الإعراض عن الاستعداد لهذا الموقف الذي تحاسبون فيه ويظهر فيه العدل - عمل الناسي له مع أنه مركوز في طباعكم{[54754]} أنه لا يسوغ لذي علم وحكمة أن يدع عبيده يمرحون في أرضه ويتقلبون في رزقه ، ثم لا يحاسبهم{[54755]} على ذلك وينصف مظلومهم ، فكان الإعراض عنه مستحقاً لأن يسمى نسياناً من هذا الوجه أيضاً ومن جهة أنه لما ظهر له من البراهين ، ما ملأ الأكوان صار كأنه ظهر ، وروي ثمّ نسي . ثم علل ذوقهم لذلك أو{[54756]} استانف لبيان المجازاة به مؤكداً في مظهر العظمة قطعاً لأطماعهم في الخلاص ، ولذا عاد{[54757]} إلى مظهر العظمة فقال : { إنا نسيناكم } أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة{[54758]} الناسي ، فأوردناكم النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها ، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم{[54759]} فيها ترك{[54760]} المنسي .
ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملاً ، بينه بقوله مؤكداً له{[54761]} : { وذوقوا عذاب الخلد } أي المختص بأنه لا آخر له . ولما كان قد خص السبب{[54762]} فيما مضى ، عم هنا فقال : { بما كنتم } أي جبلة وطبعاً { تعملون * } من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.