في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ حُطَٰمًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (21)

21

( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) .

إن هذه الظاهرة التي يوجه القرآن إليها الأنظار للتأمل والتدبر ، ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض ، حتى لتذهب الألفة بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها . والقرآن يوجه النظر إلى رؤية يد الله وتتبع آثارها في كل خطوة من خطوات الحياة .

فهذا الماء النازل من السماء . . ما هو وكيف نزل ? إننا نمر بهذه الخارقة سراعاً لطول الألفة وطول التكرار . إن خلق الماء في ذاته خارقة . ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتي أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة ، فإن هذه المعرفة خليقة بأن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما ، وبوجود الماء من هذا الاتحاد . ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض . ولولا الماء ما وجدت حياة . إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة . والله من وراء هذا التدبير ، وكله مما صنعت يداه . . ثم نزول هذا الماء بعد وجوده وهو الآخر خارقة جديدة ، ناشئة من قيام الأرض والكون على هذا النظام الذي يسمح بتكون الماء ونزوله وفق تدبير الله .

ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء :

( فسلكه ينابيع في الأرض ) . .

سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض ؛ أو الأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية ، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيوناً ، أو يتكشف آباراً . ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبداً !

( ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ) . .

والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه ؛ خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً . ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنها ؛ وتزيح أثقال الركام من فوقها ؛ وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية ؛ وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً . . هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى ؛ وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة . بل في النبتة الواحدة . بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا معرض لإبداع القدرة ؛ يُشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلاً !

هذا الزرع النامي اللدن الرخص الطري بالحياة ، يبلغ تمامه ، ويستوفي أيامه :

( ثم يهيج فتراه مصفراً ) . .

وقد بلغ غايته المقدرة له في ناموس الوجود ، وفي نظام الكون ، وفي مراحل الحياة ، فينضج للحصاد :

( ثم يجعله حطاماً ) . .

وقد استوفى أجله ، وأدى دوره ، وأنهى دورته كما قدر له واهب الحياة . .

( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . .

الذين يتدبرون فيذكرون ، وينتفعون بما وهبهم الله من عقل وإدراك .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ حُطَٰمًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (21)

قوله تعالى : " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء " أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق ، والتمييز بين المؤمن والكافر ، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء . " أنزل من السماء " أي من السحاب " ماء " أي المطر " فسلكه ينابيع في الأرض " أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها ، كما قال : " فأسكناه في الأرض " [ المؤمنون : 18 ] . " ينابيع " جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض . النحاس : وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر :

يَنْبَاعُ من ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا ، نبوعا خرج . والينبوع عين الماء والجمع الينابيع . وقد مضى في " سبحان " . " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " ثم يخرج به أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض " زرعا " هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة ، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا . قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة ، ثم تقسم منها العيون والركايا . " ثم يهيج " أي ييبس . " فتراه " أي بعد خضرته " مصفرا " قال المبرد قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى . قال : كذلك هاج النبت . قال : وكذلك قال غير الأصمعي . وقال الجوهري : هاج النبت هياجا أي يبس . وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر ، وأهاجت الريح النبت أيبسته ، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات ، وهاج هائجه أي ثار غضبه ، وهدأ هائجه أي سكنت فورته . " ثم يجعله حطاما " أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس . والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة . وقيل : هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض ، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض ، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا ، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع . وقيل : هو مثل ضربه الله للدنيا ؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها . " إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب " .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَلَكَهُۥ يَنَٰبِيعَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَجۡعَلُهُۥ حُطَٰمًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (21)

ولما أخبر سبحانه بقدرته على البعث ، دل عليها بما يتكرر مشاهدته من مثلها ، وخص المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخطاب حثاً على تأمل هذا الدليل تنبيهاً على عظمته فقال مقدراً : { ألم تر } أي مما يدلك على قدرته سبحانه على إعادة ما اضمحل وتمزق ، وأرفت وتفرق : { أن الله } أي الذي له كل صفة كمال { أنزل من السماء } أي التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهره على ذلك { ماء } كما تشاهدونه في كل عام { فسلكه } أي في خلال التراب حال كونه { ينابيع } أي عيوناً فائرة { في الأرض } فقهره على الصعود بعد أن غيبه في أعماقها بالفيض والصوب بعد أن كان قسره على الانضباط في العلو ثم أكرهه على النزول على مقدار معلوم وكيفية مدبرة وأمر مقسوم ، قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض من السماء ينزل إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا .

ولما كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر ، عبر بثم ، وفيها أيضاً تنبيه على تعظيم الأمر فيما تلاها بأنه محل الشاهد فقال : { ثم يخرج } أي الله { به } أي الماء { زرعاً } ولما كان اختلاف المسبب مع اتحاد السبب أعجب في الصنعة وأدل على بديع القدرة ، قال : { مختلفاً ألوانه } أي في الأصناف والكيفيات والطبائع والطعوم وغير ذلك مع اتحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتت فيها وصار تراباً .

ولما كان الإيقاف بعد قوة الإشراف دالاً على القهر ونفوذ الأمر ، قال إشارة إلى أن الخروج عن الحد غير محمود في شيء من الأشياء فإنه يعود عليه بالنقص { ثم يهيج } وزاد في تعظيم هذا المعنى للحث على تدبره بإسناده إلى خير الخلق صلى الله عليه وسلم فقال : { فتراه } أي فيتسبب عن هيجه وهو شدة ثورانه في نموه بعد التمام بتوقيع الانصرام أنك تراه { مصفراً } آخذاً في الجفاف بعد تلك الزهرة والبهجة والنضرة . ولما كان السياق لإظهار القدرة التامة ، عبر بالجعل مسنداً إليه سبحانه بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون لأن السياق ثَم لأن الدنيا عدم فقال : { ثم يجعله حطاماً } أي مكسراً مفتتاً بالياً .

ولما تم هذا على المنوال البديع الدال بلا شك لكل من رآه على أن فاعله قادر على الإعادة لما يريد بعد الإبادة ، كما قدر على الإيجاد من العدم والإفادة لكل ما لم يكن ، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود : { إن في ذلك } أي التدبير على هذا الوجه { لذكرى } أي تذكيراً عظيماً واضحاً على البعث وما يكون بعده ، فإن النبات كالإنسان سواء ، يكون ماء ، ثم ينعقد بشراً ، ثم يخرج طفلاً ، ثم يكون شاباً ، ثم يكون كهلاً ، ثم شيخاً ثم هرماً ، ثم تراباً مفتتاً في الأرض ، ثم يجمعه فيخرجه كما أخرج الماء النبات : { لأولي الألباب * } أي العقول الصافية جداً كما نبه عليه بخصوص الخطاب في أول هذا الباب للمنزل عليه هذا الكتاب ، وأما غيره وغير من تبعه بإحسان فهم كبهائم الحيوان .