في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى :

( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) . .

والأمشاج : الأخلاط . وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح . وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة ، والتي يمثلها ما يسمونه علميا " الجينات " وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا . وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان ، لا جنين أي حيوان آخر . كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة . . ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى . .

خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج ، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية ، ولكنه خلق ليبتلي ويمتحن ويختبر . والله سبحانه يعلم ما هو ? وما اختباره ? وما ثمرة اختباره ? ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود ، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود ، وأن تتبعه آثاره المقدرة . ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه .

ومن ثم جعله سميعا بصيرا . أي زوده بوسائل الإدراك ، ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . .

وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها ، وهي خلقته من نطفة أمشاج . . كانت وراءها حكمة . وكان وراءها قصد . ولم تكن فلتة . . كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره . ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة ، والمعرفة والاختبار . . وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة . . بمقدار !

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

قوله تعالى : " إنا خلقنا الإنسان " أي ابن آدم من غير خلاف " من نطفة " أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبدالله بن رواحة يعاتب نفسه :

مالي أراكِ تكرهينَ الجنة *** هل أنت إلا نطفةٌ في شَنَّهْ{[15657]}

وجمعها : نطف ونطاف . " أمشاج " أخلاط . واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ، قال رؤبة :

يَطْرَحْنَ كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِ *** لم يُكسَ جِلْدًا في دمٍ أمشاجِ

ويقال : مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ، مثل مخلوط وخليط . وقال المبرد : واحد الأمشاج : مشيج ، يقال : مشج يمشج : إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ، قال الشماخ :

طَوَتْ أحشاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ *** على مَشَجٍ سلالتُه مَهِينُ

وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة . ويقال للشيء من هذا إذا خلط : مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة . وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ، قال الهذلي{[15658]} :

كان الرِّيشَ والفُوقَيْنِ منه *** خلافَ النصلِ سِيطَ به مَشِيجُ

وعن{[15659]} ابن عباس أيضا قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة . وقد روي هذا مرفوعا ، ذكره البزار .

وروي عن ابن مسعود : أمشاجها عروق المضغة . وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ابن عباس : خلق من ألوان ، خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم . ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما ، كما قال في سورة " المؤمنون " " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " [ المؤمنون : 12 ] الآية . وقال ابن السكيت : الأمشاج الأخلاط ؛ لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . وقال أهل المعاني : الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ؛ لأنه نعت للنطفة ، كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق . وروي عن أبي أيوب الأنصاري : قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : [ ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ] فقال الحبر : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة " البقرة " .

قوله تعالى : " نبتليه " أي نختبره . وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار . وفيما يختبر به وجهان : أحدهما : نختبره بالخير والشر . قاله الكلبي . الثاني : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء . قاله الحسن . وقيل : " نبتليه " نكلفه . وفيه أيضا وجهان : أحدهما : بالعمل بعد الخلق . قاله مقاتل . الثاني : بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي . وروي عن ابن عباس : " نبتليه " : نصرفه خلقا بعد خلق ؛ لنبتليه بالخير والشر . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم " فجعلناه سميعا بصيرا " لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير .

قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة . وقيل : " جعلناه سميعا بصيرا " : يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى .


[15657]:الشنة: القربة.
[15658]:هو عمرو بن الداخل الهذلي. وفي (اللسان: مشج) زهير بن حرام الهذلي. سيط به: أي خرج قذذ من الريش مختلط من الدم والماء.
[15659]:وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ما يأتي: والمعنى: "من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام، والخواص تجتمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة، ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له".
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

{ من نطفة أمشاج } أي : أخلاط واحدها مشج بفتح الميم وشين ، وقيل : مشج بوزن عدل ، وقال الزمخشري : ليس أمشاج بجمع وإنما هو مفرد كقولهم برمة أعشار ، ولذلك أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا ، فقيل : اختلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، وقيل : اختلاط ماء الرجل والمرأة وروي : أن عظام الإنسان ، وعصبه من ماء الرجل ، وأن لحمه وشحمه من ماء المرأة ، وقيل : معناه ألوان وأطوار أي : يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة .

{ نبتليه } أي : نختبره وهذه الجملة في موضع الحال أي : خلقناه مبتلين له وقيل : معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة .

{ فجعلناه سميعا بصيرا } هذا معطوف على خلقنا الإنسان ومن جعل نبتليه وهذا تكلف بعيد .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا} (2)

ولما ذكر مطلق خلقه ، وقرر{[70460]} أنه خلاصة الكون ، شرع يذكر كيفية خلقه ويدل على ما لزم من ذلك من أنه ما خلق الخلق إلا لأجله وأنه لا يجوز أن يهمل{[70461]} فقال معلماً بالحال التي هي قيد الجملة ومحط الفائدة{[70462]} أنه ما خلق إلا للآخرة ، مفصلاً أمر الإيجاد بالفاعل والصورة والمادة والغاية و{[70463]}أكده لإنكارهم له{[70464]} : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { خلقنا } أي قدرنا وصورنا ، وأظهر{[70465]} ولم يضمر لأن الثاني خاص والأول عام لآدم عليه الصلاة والسلام وجميع ولده فقال : { الإنسان } أي بعد خلق آدم عليه الصلاة والسلام { من نطفة } أي مادة هي ماء يسيرجداً من الرجل والمرأة ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة وهي المادة التي هي السبب الحامل للقوة المولدة .

ولما كان خلقه على طبائع مختلفة وأمزجة متفاوتة أعظم لأجره إن جاهد ما يتنازعه من المختلفات بأمر ربه الذي{[70466]} لا يختلف ، وكانت أفعاله تابعة لأخلاقه وأخلاقه تابعة{[70467]} لجبلته قال : { أمشاج } أي أخلاط -{[70468]} جمع مشج أو مشيج مثل خدن وخدين وأخدان ، و{[70469]}خلط وخليط{[70470]} وأخلاط ، من مشجت الشيء - إذا خلطته ، لأنه من مني الرجل ومني المرأة ، وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص تجتمع مع الأخلاط وهي العناصر الأربعة ، ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم فمن نظفة الرجل ، وما كان من {[70471]}دم ولحم{[70472]} وشعر فمن ماء المرأة ، وقال يمان{[70473]} : كل لونين اختلطا فهو{[70474]} أمشاج ، وقال قتادة : هي أطوار الخلق من النطفة وما بعدهما ، وكما{[70475]} يشبه ما غلب عليه من باطن الأمشاج من {[70476]}الطيب والخبث{[70477]} ، وكيفية تمشيجه أن الماء إذا وصل إلى قرار الرحم اختلط بماء المرأة ثم بدم{[70478]} الطمث وخثر حتى صار كالرائب{[70479]} ثم احمر وحينئذ يسمى علقة ، فاذا اشتد ذلك الامتزاج وقوي وتمتن حتى استعد لأن يقسم فيه الأعضاء سمي{[70480]} مضغة ، فإذا أفيضت عليه صور الأعضاء وتقسم كساه حينئذ مفيضه عز وجل لحماً ، فأفاض عليه القوة العاقلة ، ويسمى حينئذ جنيناً ، وذلك بعد تقسم أجزائه إلى عظام وعروق وأعصاب وأوتار ولحم ، فدور الرأس وشق في جانبيه السمع وفي مقدمه البصر والأنف والفم ، وشق في البدن سائر المنافذ ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها{[70481]} بالأصابع ، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد -{[70482]} والطحال والرئة والمثانة ، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة مهينة كوّن منها العظام مع قوتها وشدتها{[70483]} وجعلها عماد البدن وقوامه وقدرها بمقادير{[70484]} وأشكال مختلفة ، فمنها صغير وكبير ، وطويل وقصير ، وعريض ومستدير ، ومجوف ومصمت ، ودقيق وثخين ، ولم يجعلها عظماً واحداً لأن الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه ثم جعل بين تلك العظام مفاصل ثم وصلها بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقها بالطرف الآخر بالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة ، وفي الآخر حفراً{[70485]} موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها ، وخلق الرأس مع كريته من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال وألف بعضها مع بعض ، فجعل في القحف ستة وفي اللحى الأعلى أربعة عشر ، واثنان للأسفل ، والباقي في الأسنان ، وجعل الرقبة-{[70486]} مركباً للرأس وركبها من سبع خرزات فيها تجويفات {[70487]}وزيادات{[70488]} ونقصانات{[70489]} لينطبق بعضها على بعض ، وركب الظهر من أربع وعشرين خرزة وعظم العجز{[70490]} من ثلاثة أجزاء ، وجعل من أسفله عظم العصعص أو اللفة من ثلاثة أجزاء مختلفة ، ثم وصل عظام الظهر بعظام{[70491]} الصدر وعظام الكتف وغيرها حتى بلغ مجموع عظام بدن الإنسان مائتي عظم{[70492]} وثمانية وأربعين عظماً سوى العظام التي حشا بها خلل{[70493]} المفاصل ، وخلق{[70494]} سبحانه آلات التحريك للعظام وهي العضلات وهي خمسمائة وسبع وعشرون{[70495]} عضلة كل منها على قدر مخصوص ووضع مخصوص لو تغير عن-{[70496]} ذلك أدنى تغير لاختلت مصالح البدن ، وكذا الأعصاب والأوردة والشرايين ، ثم انظر كيف خلق الظهر أساساً للبدن ، والبطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس مجمعاً للحواس ، ففتح العين ورتب طبقاتها{[70497]} وأحسن شكلها ولونها وأحكمها بحيث ينطبع في مقدار عدسة منها صورة السماوات على عظمها ، وحماها بالأجفان لتسترها وتحفظها ، ثم أودع الأذنين ماء مراً يدفع عنها الهوام وحاطهما بصدفين لجمع الصوت ورده إلى الصماخ وليحس بدبيب الهوام وجعل فيها{[70498]} تعريجاً لتطويل الطريق فلا تصل الهوام إلى جرم الصماخ سريعاً ، ثم رفع الأنف في الوجه وأودع فيه حاسة الشم للاستدلال بالروائح على الأطعمة والأغذية ولاستنشاق الروائح الطيبة لتكون مروحة للقلب ، وأودع الفم اللسان وجعله على كونه لحمة واحدة معرباً{[70499]} عما في النفس ، وزين القم بالأنسان فحدد بعضها لتكون آلة{[70500]} للنقب وحدد بعضها لتصلح للقطع ، وجعل بعضها عريضاً مفلطحاً صالحاً للطحن وبيض ألوانها ورتب صفوفها وسوى رؤوسها ونسق ترتيبها حتى صارت كالدر المنظوم ، ثم أطبق على الفم الشفتين وحسن لونهما لتحفظا منفذه{[70501]} وهيأ الحنجرة لخروج الصوت ، وخالف أشكال الحناجر في {[70502]}الضيق والسعة{[70503]} والخشونة والملاسة والصلابة والرخاوة والطول والقصر ، فاختلفت الأصوات بسببها ليميز السامع المصوّتين بسبب تمييز أصواتهم فيعرفهم وإن لم يرهم ، وسخر كل عضو من أعضاء الباطن لشيء مخصوص ، فالمعدة لإنضاج الغذاء ، والكبد لإحالته إلى الدم{[70504]} ، والطحال لجذب السواد ، والمرارة لجذب الصفراء ، والكلية لجذب الفضلة المائية ، والمثانة لخدمة الكلية بقبول الماء عنها ثم إخراجه من طريقه ، والعروق لخدمة الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ، وكان مبدأ ذلك كله النطفة على صغرها في داخل الرحم في ظلمات ثلاث ولو كشف الغطاء وامتد البصر إليه لرأى التخطيط{[70505]} والتصوير يظهر عليه شيئاَ فشيئاً ولا يرى المصور ولا الإله ، فسبحانه ما أعظم شأنه وأبهر{[70506]} برهانه ، فيالله العجب{[70507]} ممن يرى نقشاً حسناً على جدار فيتعجب من حسنه وحذق صانعه ثم لا يزال يستعظمه ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه-{[70508]} ومصوره فلا تدهشه عظمته ولا يحيره جلاله وحكمته .

ولما كان الإنسان مركباً من روح خفيف طاهر وبدن هو مركب{[70509]} الحظوظ والشهوات واللوم والدنيات ، فكان الروح بكماله والبدن بنقصانه يتعالجان ، كل منهما يريد أن يغلب صاحبه ، قوى سبحانه الروح بالشرع الداعي إلى معالي الأخلاق ، الناهي عن مساويها ، المبين لذلك غاية البيان على يد إنسان طبعه سبحانه على الكمال ليقدر على التلقي من الملائكة ، فيكمل أبناء نوعه ، فدل على ذلك بحال بناها من ضمير العظمة فقال مبيناً للغاية : { نبتليه } أي نعامله بما لنا من العظمة بالأمر والنهي والوعظ معاملة المختبر ونحن أعلم به منه ، ولكنا فعلنا ذلك لنقيم عليه الحجة على ما يتعارفه الناس ، فإن العاصي لا يعلم أنه أريد منه العصيان ، وكذا{[70510]} الطائع ، فصار التكليف بحسب وهمه لما خلق {[70511]}الله له{[70512]} من القوة والقدرة الصالحة في الجملة .

ولما ذكر الغاية ، أتبعها الإعدادات المصححة لها فقال : { فجعلناه } أي بما لنا من العظمة بسبب ذلك { سميعاً } أي بالغ السمع { بصيراً * } أي عظيم البصر و{[70513]}البصيرة ليتمكن{[70514]} من مشاهدة{[70515]} الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ، ومعرفة الحجج ببصيرته ، فيصح تكليفه وابتلاؤه ، {[70516]}فقدم العلة الغائية{[70517]} لأنها متقدمة{[70518]} في الاستحضار على-{[70519]} التابع لها المصحح لورودها ، وقدم السمع-{[70520]} لأنه أنفع في المخاطبات ، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية ، قال الرازي في اللوامع وإلى هنا انتهى {[70521]}الخبر الفطري ثم يبتدئ منه{[70522]} الاختبار الكسبي - انتهى .

وذلك بنفخ الروح وهي حادثة {[70523]}بعد حدوث{[70524]} البدن بإحداث القادر المختار لها بعد تهيئة البدن لقبولها ، ثم أفاض سبحانه على الجملة العقل ، وجعل السمع والبصر اللتين له ، ولعله خصهما لأنهما أنفع الحواس ، ولأن البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع ، وجعل سبحانه-{[70525]} له ذلك لاستقراء صور المحسوسات وانتزاع العلوم الكلية منها ، وبذلك يكمل علمه الذي منه الدفع عن نفسه التي جعلها الله تعالى محل التكليف ليكمل تكليفه ، وذلك أنه{[70526]} سبحانه ركبه من العناصر الأربعة ، وجعل صلاحه بصلاحها ، وفساده بفسادها لتعاليها ، فاضطر إلى قوى يدرك بها المنافي فيجتنبه والملائم فيطلبه ، فرتب له سبحانه الحواس الخمس الظاهرة ، فجعل السمع في الأذن ، والبصر في العين ، والذوق في اللسان ، والشم في الأنف ، وبث اللمس في سائر البدن ، ليدفع به عن جميع الأعضاء ما يؤذيها ، وهذه الحواس{[70527]} الظاهرة تنبعث{[70528]} عن قوة باطنة تسمى الحس المشترك بحمل ما أدركته فيرتسم هناك وهو في مقدم البطن{[70529]} الأول من الدماغ وينتقل ما ارتسم هنا إلى خزانة الخيال وهي في مؤخر هذا البطن من الدماغ فتحفظ فيها صورته وإن غابت عن الحواس ، وثم قوة أخرى من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة{[70530]} بالمحسوسات الشخصية كعداوة زيد وصداقته تسمى الوهم ومحلها الدماغ كله والأخص {[70531]}بها التجويف{[70532]} الأوسط وخصوصاً مؤخره ، وقوة أخرى أيضاً شأنها خزن ما أدركته القوة الوهمية من المعاني الجزئية تسمى الحافظة باعتبار ، والذاكرة باعتبار ، ومحلها التجويف {[70533]}المؤخر في الدماغ{[70534]} ، وقوة أخرى من شأنها تفتيش تلك الخزائن وتركيب{[70535]} بعض مودعاتها مع بعض وتفصيل بعضها مع بعض ومحلها وسلطانها في أول التجويف الأوسط ، وتلك القوة{[70536]} تسمى مخيلة باعتبار تصريف الوهم لها و{[70537]}مفكرة باعتبار {[70538]}استعمال النفس{[70539]} لها ، وقد اقتضت الحكمة الربانية تقديم ما يدرك الصور الجرمية وتأخير ما يدرك المعاني الروحانية ، وتوسيط المتصرف فيهما بالحكم والاسترجاع للأمثال المنمحية من الجانبين ، ثم لا تزال هذه القوى تخدم ما فوقها{[70540]} كما خدمتها الحواس الخمس{[70541]} إلى أن تصير عقلاً مستفاداً ، وهو قوة للنفس {[70542]}بها يكون لها{[70543]} حضور المعقولات بالفعل ، وهذا العقل هو غاية السلوك الطلبي للإنسان وهو الرئيس المطلق المخدوم للعقل بالفعل ، وهو القوة التي تكون للنفس بها اقتدار على استحضار المعقولات -{[70544]} الثانية وهو المخدوم للعقل الهيولاني المشبه بالهيولى الخالية{[70545]} في نفسها عن جميع الصور ، وهو قوة من شأنها الاستعداد المحض لدرك المعقولات باستعمال{[70546]} الحواس في تصفح الجزئيات واستقرائها المخدومات كلها للعقل العملي ، وهو القوة النظرية المخدوم للوهم{[70547]} المخدوم لما بعده من الحافظة وما قبله من المتخيلة المخدومتين للخيال المخدوم للحس المشترك المخدوم للحواس الظاهرة .


[70460]:من ظ و م، وفي الأصل: ذكر.
[70461]:من ظ و م، وفي الأصل: يهمله.
[70462]:زيدت الواو في الأصل و ظ ولم تكن في م فحذفناها.
[70463]:من ظ و م، وفي الأصل: أكد ذلك.
[70464]:من ظ و م، وفي الأصل: أكد ذلك.
[70465]:من ظ و م، وفي الأصل: أظهرنا.
[70466]:من ظ و م، وفي الأصل: التي
[70467]:زيد من ظ و م.
[70468]:زيد من ظ و م.
[70469]:من ظ و م، وفي الأصل: خليط وخلط.
[70470]:من ظ و م، وفي الأصل: خليط وخلط.
[70471]:في ظ و م: لحم ودم.
[70472]:في ظ و م: لحم ودم.
[70473]:هو أبو بشر اللغوي.
[70474]:من ظ و م، وفي الأصل: فهم.
[70475]:من ظ و م، وفي الأصل: فكما.
[70476]:من ظ و م، وفي الأصل: الطين والخشب.
[70477]:من ظ و م، وفي الأصل: الطين والخشب.
[70478]:من ظ و م، وفي الأصل: بما.
[70479]:من ظ و م، وفي الأصل: كالترايب.
[70480]:من ظ و م، وفي الأصل: يسمى.
[70481]:من ظ و م، وفي الأصل: رؤسها.
[70482]:زيد من ظ و م.
[70483]:من ظ و م، وفي الأصل: شل لعا.
[70484]:من ظ و م، وفي الأصل: بها.
[70485]:من ظ و م، وفي الأصل: حفر.
[70486]:زيد من ظ و م.
[70487]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[70488]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[70489]:من ظ و م، وفي الأصل: نقصان.
[70490]:من ظ و م، وفي الأصل: العجم.
[70491]:من ظ و م، وفي الأصل: بعظم.
[70492]:من ظ و م، وفي الأصل: عظام.
[70493]:من م، وفي الأصل و ظ: خلال.
[70494]:زيد في الأصل: الله، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[70495]:من ظ و م، وفي الأصل: عشرين.
[70496]:زيد من ظ و م.
[70497]:من ظ و م، وفي الأصل: طباقها.
[70498]:من ظ و م، وفي الأصل: فيهما.
[70499]:من ظ و م، وفي الأصل: معبرا.
[70500]:زيد في الأصل: وآية، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[70501]:من ظ و م، وفي الأصل: مقدرة.
[70502]:من ظ و م، وفي الأصل: السعة والضيق.
[70503]:من ظ و م، وفي الأصل: السعة والضيق.
[70504]:من ظ و م، وفي الأصل: الكبذ.
[70505]:في ظ: التخليط.
[70506]:من ظ و م، وفي الأصل: أعز.
[70507]:في ظ و م: العجب.
[70508]:زيد من ظ و م.
[70509]:زيد في الأصل: من، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[70510]:من ظ و م، وفي الأصل: كذلك.
[70511]:في ظ: له تعالى، وما بين الرقمين ساقط من م.
[70512]:في ظ: له تعالى، وما بين الرقمين ساقط من م.
[70513]:من ظ و م، وفي الأصل: البصير لا يتمكن.
[70514]:من ظ و م، وفي الأصل: البصير لا يتمكن.
[70515]:من ظ وم، وفي الأصل: مشاهدات.
[70516]:من ظ و م، وفي الأصل: وقدم العلقة الغاية.
[70517]:من ظ و م، وفي الأصل: وقدم العلقة الغاية.
[70518]:من ظ و م، وفي الأصل: مقدمة.
[70519]:زيد من ظ و م.
[70520]:زيد من ظ.
[70521]:تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[70522]:تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[70523]:من م، وفي الأصل و ظ: بحدوث.
[70524]:من م، وفي الأصل و ظ: بحدوث.
[70525]:زيد من ظ و م.
[70526]:من ظ و م، وفي الأصل: إن الله.
[70527]:من ظ و م، وفي الأصل: الخمسة.
[70528]:من ظ و م، وفي الأصل: تبعث.
[70529]:من ظ و م، وفي الأصل: البطر.
[70530]:من ظ و م، وفي الأصل: المتعلق بالقراين المخصوصة.
[70531]:من ظ و م، وفي الأصل: بالتجويف.
[70532]:من ظ و م، وفي الأصل: بالتجويف.
[70533]:من ظ و م، وفي الأصل: والأخرى بالدماغ.
[70534]:من ظ و م، وفي الأصل: والأخرى بالدماغ.
[70535]:من ظ و م، وفي الأصل:تأليف.
[70536]:من م، وفي الأصل و ظ: القوى.
[70537]:زيد في الأصل: تسمى، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[70538]:من ظ و م، وفي الأصل: بالوهم.
[70539]:من ظ و م، وفي الأصل: بالوهم.
[70540]:من ظ و م، وفي الأصل: فرقها.
[70541]:سقط من ظ و م.
[70542]:من ظ و م، وفي الأصل: يكون بها.
[70543]:من ظ و م، وفي الأصل: يكون بها.
[70544]:زيد من ظ و م.
[70545]:من ظ و م، وفي الأصل: عن.
[70546]:من ظ و م، وفي الأصل: بالاستعمال.
[70547]:من ظ و م، وفي الأصل: للتوهم.