وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى . قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها . فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعا وتذهب معه حسرات عند الضراء . ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء :
( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ) . .
فاتساع أفق النظر ، والتعامل مع الوجود الكبير ، وتصور الأزل والأبد ، ورؤية الأحداث في مواضعها المقدرة في علم الله ، الثابتة في تصميم هذا الكون . . كل أولئك يجعل النفس أفسح وأكبر وأكثر ثباتا ورزانة في مواجهة الأحداث العابرة . حين تتكشف للوجود الإنساني وهي مارة به في حركة الوجود الكوني .
إن الإنسان يجزع ويستطار وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود . ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير . فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به ، وتمر بغيره ، والأرض كلها . . ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود . . وأن هذه الذرات كائنة في موضعها في التصميم الكامل الدقيق . لازم بعضها لبعض . وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون . . حين يستقر هذا في تصوره وشعوره ، فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء . فلا يأسى على فائت أسى يضعضعه ويزلزله ، ولا يفرح بحاصل فرحا يستخفه ويذهله . ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية وفي رضى . رضى العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون !
وهذه درجة قد لا يستطيعها إلا القليلون . فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء ، ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله ، وذكره بهذه وبتلك ، والاعتدال في الفرح والحزن . قال عكرمة - رضي الله عنه - " ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا " . . وهذا هو اعتدال الإسلام الميسر للأسوياء . .
وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر ، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه ، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر فظ غليظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه ، كما قال تبارك وتعالى : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بل هي فتنة }
ولما بين هذا الأمر العظيم الدال على ما له سبحانه من الكبرياء والعظمة ، بين ثمرة أعماله بقوله : { لكيلا } أي أعملناكم بأن على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير ، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير ، لأن الحزن لا يدفعه ، ولا السرور يجلبه ويجمعه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ليقلّ همك ما قدر يكن " لأجل أن لا { تأسوا } أي تحزنوا حزناً كبيراً زائداً { على } ما{[62594]} في أصل الجبلة ، يوصل إلى المبلغ{[62595]} بتعاطي أسبابه والتمادي فيها ليتأثر عنها السخط وعدم الرضا بالقضاء ، فربما جر ذلك إلى أمر عظيم { ما فاتكم } من المحبوبات الدنيوية { ولا تفرحوا } أي تسروا سروراً يوصل إلى البطر بالتمادي مع ما في أصل الجبلة { بما آتاكم } أي جاءكم منها على قراءة أبي عمرو{[62596]} بالقصر ، وأعطاكم الله{[62597]} على قراءة الباقين بالمد ، وهي تدل على أن النعم لا بد في إيجادها وإبقائها من حافظ ، ثم إنها لو خليت ونفسها فاتت لأنه ليس من ذاته إلا العدم ، وقد بين سبحانه أن في تقديره هذا وكتبه من السر أن من وطن نفسه على فقد ما لديه من أعيان ومعان{[62598]} قبل أن تأمره بالعدم والوجدان ، فلم يغيره ذلك عن المسابقة المذكورة ، فالمنهي عنه التمادي مع الحزن حتى يخرج عن الصبر ومع الفرح حتى يلهي عن الشكر ، لا أصل المعنى لأنه ليس من الأفعال الاختيارية ، قال جعفر الصادق : ما لك تأسف على مفقود ولا يرده إليك الفوت ، وما لك تفرح بوجود ولا يتركه في يدك{[62599]} الموت - انتهى ، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده ، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيدهم ، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله ، وذلك بأن يقول في المصيبة : قدر الله وما شاء الله{[62600]} فعل ويصير وفي النعمة هكذا قضى ، وما أدري ما مثاله
( هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر }[ النمل : 40 ] فلا يزال خائفاً عند النقمة راجياً أثر النعمة ، قائلاً في الحالين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه له في كلتا الحالتين كما قال القائل{[62601]} :سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن *** ما كان قلبي للصبابة معهدا
وهذه صفة المتحررين{[62602]} من رق النفس ، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة ، فمن لم تغيره المضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته ، أشار إليه القشيري . ولما كان الإمعان في استجلاب الأسى إنما هو من اليأس ونسيان النعم وزيادة الفرح الموصل إلى المرح إنما يجره الكبر والمرح ، وكان في أوصاف أهل الدنيا التفاخر ، قال تعالى مبيناً أن المنهي عنه سابقاً التمادي مع الجبلة في الحزن والفرح ، عاطفاً على ما تقديره : { فإن الله لا يحب كل يؤوس كفور } { والله لا يحب }{[62603]} أي لا يفعل فعل المحب بأن يكرم{[62604]} { كل مختال } أي متكبر نظر إلى ما في يده من الدنيا { فخور * } قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها ، والفخر من{[62605]} رؤية خطر ما به يفتخر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.