هنا انتدب رجل من آل فرعون ، وقع الحق في قلبه ، ولكنه كتم إيمانه . انتدب يدفع عن موسى ، ويحتال لدفع القوم عنه ، ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى ، ويتدسس إلى قلوبهم بالنصيحة ويثير حساسيتها بالتخويف والإقناع :
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ? وإن يك كاذباً فعليه كذبه ، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ? قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . وقال الذي آمن : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلماً للعباد . ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ؛ فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولاً . كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار . .
إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه . وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك .
إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه : ( أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ) . . فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب ، واقتناع نفس ، تستحق القتل ، ويرد عليها بإزهاق روح ? إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة .
ثم يخطو بهم خطوة أخرى . فالذي يقول هذه الكلمة البريئة : ربي الله . . يقولها ومعه حجته ، وفي يده برهانه : ( وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) . . يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى - عليه السلام - ورأوها ، وهم - فيما بينهم وبعيداً عن الجماهير - يصعب أن يماروا فيها !
ثم يفرض لهم أسوأ الفروض ؛ ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية ؛ تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه : ( وإن يك كاذباً فعليه كذبه ) . . وهو يحمل تبعة عمله ، ويلقى جزاءه ، ويحتمل جريرته . وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال !
وهناك الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون صادقاً . فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال ، وعدم التعرض لنتائجه : ( وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ) . . وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية ، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه . وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام .
ثم يهددهم من طرف خفي ، وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم : ( إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) . . فإذا كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه ، فدعوه له يلاقي منه جزاءه . واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون ، فيصيبكم هذا المآل !
فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم ، مقبحًا فعل قومه ، وشناعة ما عزموا عليه : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } أي : كيف تستحلون قتله ، وهذا ذنبه وجرمه ، أنه يقول ربي الله ، ولم يكن أيضا قولاً مجردًا عن البينات ، ولهذا قال : { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير ، أي : فهذا لا يوجب قتله .
فهلا أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق ، وقابلتم البرهان ببرهان يرده ، ثم بعد ذلك نظرتم : هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا ؟ فأما وقد ظهرت حجته ، واستعلى برهانه ، فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي .
ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل ، بأي حالة قدرت ، فقال : { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ }
أي : موسى بين أمرين ، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها ، فإن كان كاذبًا فكذبه عليه ، وضرره مختص به ، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه ، وإن كان صادقًا وقد جاءكم بالبينات ، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة ، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وهو عذاب الدنيا .
وهذا من حسن عقله ، ولطف دفعه عن موسى ، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم ، وجعل الأمر دائرًا بين تينك الحالتين ، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم .
ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه - إلى أمر أعلى من ذلك ، وبيان قرب موسى من الحق فقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } أي : متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل . { كَذَّابٌ } بنسبته ما أسرف فيه إلى الله ، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب ، لا في مدلوله ولا في دليله ، ولا يوفق للصراط المستقيم ، أي : وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق ، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية ، فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفًا ولا كاذبًا ، وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه .
الأولى- قوله تعالى : " وقال رجل مؤمن من آل فرعون " ذكر بعض المفسرين : أن اسم هذا الرجل حبيب . وقيل : شمعان بالشين المعجمة . قال السهيلي : وهو أصح ما قيل فيه . وفي تاريخ الطبري رحمه الله : اسمه خبرك{[13369]} . وقيل : حزقيل : ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء . الزمخشري : واسمه سمعان أو حبيب . وقيل : خربيل أو حزبيل . واختلف هل كان إسرائيليا أو قبطيا فقال الحسن وغيره : كان قبطيا . ويقال : إنه كان ابن عم فرعون . قاله السدي . قال : وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام ؛ ولهذا قال : " من آل فرعون " وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى : " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى " [ القصص : 20 ] الآية . وهذا قول مقاتل . وقال ابن عباس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال : " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " [ القصص : 20 ] .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ، ومؤمن آل فرعون الذي قال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم{[13370]} ) وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تعجب من مشركي قومك . وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون ؛ فلهذا لم يتعرض له بسوء . وقيل : كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون . عن السدي أيضا . ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير ، والتقدير : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون . فمن جعل الرجل قبطيا ف " من " عنده متعلقة بمحذوف صفة الرجل . التقدير : وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون ، أي من أهله وأقاربه . ومن جعله إسرائيليا ف " من " متعلقة ب " يكتم " في موضع المفعول الثاني ل " يكتم " . القشيري : ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد ؛ لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه . قال الله تعالى : " ولا يكتمون الله حديثا " [ النساء : 42 ] وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول .
الثانية- قوله تعالى : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " أي لأن يقول ومن أجل " أن يقول ربي الله " ف " أن " في موضع نصب بنزع الخافض . " وقد جاءكم بالبينات من ربكم " يعني الآيات التسع " من ربكم وإن يكن كاذبا فعليه كذبه " ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته ، صدقه ، ولكن تلطفا في الاستكفاف واستنزالا عن الأذى . ولو كان و " إن يكن " بالنون جاز ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه ؛ ولأنها نون الإعراب على قول أبي العباس . " وإن يكن صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم . ومذهب أبي عبيدة أن معنى " بعض الذي يعدكم " كل الذي يعدكم وأنشد قول لبيد :
تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرْضَهَا *** أو يرتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمَامُهَا{[13371]}
فبعض بمعنى كل ؛ لأن البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد ، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ . وذكر الماوردي : أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام ، كما قال الشاعر{[13372]} :
قد يُدرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجته *** وقد يكون مع المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وقيل أيضا : قال ذلك لأنه حذرهم أنواعا من العذاب كل نوع منها مهلك ، فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع . وقيل : وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن كفروا ، فالمعنى يصبكم أحد العذابين . وقيل : أي يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض الوعيد ، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضا . وقيل : وعدهم العذاب إن كفروا والثواب إن آمنوا ، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا . " إن الله لا يهدي من هو مسرف " على نفسه . وقيل : " مسرف " في عناده " كذاب " على ربه إشارة إلى موسى ويكون هذا من قول المؤمن . وقيل " كذاب " في ادعائه إشارة إلى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى .
الثالثة- قوله تعالى : " يكتم إيمانه " قال القاضي أبو بكر بن العربي : ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمنا باعتقاده ، وقد قال مالك : إن الرجل إذا نوى بقلبه طلاق زوجته أنه يلزمه ، كما يكون مؤمنا بقلبه وكافرا بقلبه . فجعل مدار الإيمان على القلب وأنه كذلك ، لكن ليس على الإطلاق وقد بيناه في أصول الفقه ، بما لبابه : أن المكلف إذ نوى الكفر بقلبه كان كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمنا بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله .
الرابعة- روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ، إذا أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " لفظ البخاري . خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل هذا يجؤه{[13373]} وهذا يتلتله ، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا ويقول بأعلى صوته : ويلكم : " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " والله إنه لرسول الله ، فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ . فقال علي : والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون ، إن ذلك رجل كتم إيمانه ، فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل مال ودمه لله عز وجل .
قلت : قول علي رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه ، وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه . في نوادر الأصول أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها : ما أشد شيء رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان المشركون قعودا في المسجد ، ويتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول في آلهتهم ، فبينا هم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم ، فقالوا : ألست تقول كذا في آلهتنا قال : ( بلى ) فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال له : أدرك صاحبك . فخرج من عندنا وإن له غدائر ، فدخل المسجد وهو يقول : ويلكم " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر ، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه ، وهو يقول : تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، إكرام إكرام .