فكيف يقي المؤمنون أنفسهم وأهليهم من هذه النار ? إنه يبين لهم الطريق ، ويطمعهم بالرجاء :
( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ، عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار . يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا ، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) . .
هذا هو الطريق . . توبة نصوح . . توبة تنصح القلب وتخلصه ، ثم لا تغشه ولا تخدعه .
توبة عن الذنب والمعصية ، تبدأ بالندم على ما كان ، وتنتهي بالعمل الصالح والطاعة ، فهي عندئذ تنصح القلب فتخلصه من رواسب المعاصي وعكارها ؛ وتحضه على العمل الصالح بعدها . فهذه هي التوبة النصوح . التوبة التي تظل تذكر القلب بعدها وتنصحه فلا يعود إلى الذنوب .
فإذا كانت هذه التوبة فهي مرجوة إذن في أن يكفر الله بها السيئات . وأن يدخلهم الجنات . في اليوم الذي يخزي فيه الكفار كما هم في المشهد الذي سبق في السياق . ولا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه .
وإنه لإغراء مطمع ، وتكريم عظيم ، أن يضم الله المؤمنين إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فيجعلهم معه صفا يتلقى الكرامة في يوم الخزي . ثم يجعل لهم نورا ( يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ) . نورا يعرفون به في ذلك اليوم الهائل المائج العصيب الرهيب . ونورا يهتدون به في الزحام المريج . ونورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم إلى الجنة في نهاية المطاف !
وهم في رهبة الموقف وشدته يلهمون الدعاء الصالح بين يدي الله : ( يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا ، واغفر لنا ، إنك على كل شيء قدير ) . . وإلهامهم هذا الدعاء في هذا الموقف الذي يلجم الألسنة ويسقط القلوب ، هو علامة الاستجابة . فما يلهم الله المؤمنين هذا الدعاء إلا وقد جرى قدره بأنه سيستجيب . فالدعاء هنا نعمة يمن بها الله عليهم تضاف إلى منة الله بالتكريم وبالنور .
فأين هذا من النار التي وقودها الناس والحجارة ?
إن هذا الثواب ، كذلك العقاب ، كلاهما يصور تبعة المؤمن في وقاية نفسه وأهله من النار ، وإنالتهمهذا النعيم في جنات تجري من تحتها الأنهار .
وفي ظلال ذلك الحادث الذي كان في بيوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ندرك الإيحاء المقصود هنا من وراء هذه النصوص .
إن المؤمن مكلف هداية أهله ، وإصلاح بيته ، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه .
إن الإسلام دين أسرة - كما أسلفنا في سورة الطلاق - ومن ثم يقرر تبعة المؤمن في أسرته ، وواجبه في بيته . والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة ، وهو الخلية التي يتألف منها ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي . . المجتمع الإسلامي . .
إن البيت الواحد قلعة من قلاع هذه العقيدة . ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها حصينة في ذاتها ، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها . وإلا تكن كذلك سهل اقتحام المعسكر من داخل قلاعه ، فلا يصعب على طارق ، ولا يستعصي على مهاجم !
وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله . واجبه أن يؤمن هذه القلعة من داخلها . واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدا .
ولابد من الأم المسلمة . فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة . لابد من أب وأم ليقوما كذلك على الأبناء والبنات . فعبثا يحاول الرجل أن ينشئ المجتمع الإسلامي بمجموعة من الرجال . لابد من النساء في هذا المجتمع فهن الحارسات على النشء ، وهو بذور المستقبل وثماره .
ومن ثم كان القرآن يتنزل للرجال وللنساء ؛ وكان ينظم البيوت ، ويقيمها على المنهج الإسلامي ، وكان يحمل المؤمنين تبعة أهليهم كما يحملهم تبعة أنفسهم : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) . .
هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام وأن يدركوه جيدا . إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت . إلى الزوجة . إلى الأم . ثم إلى الأولاد ؛ وإلى الأهل بعامة . ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم . وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولا عن الزوجة المسلمة . وإلا فسيتأخر طويلا بناء الجماعة الإسلامية . وسيظل البنيان متخاذلا كثير الثغرات !
وفي الجماعة المسلمة الأولى كان الأمر أيسر مما هو في أيامنا هذه . . كان قد أنشئ مجتمع مسلم - في المدينة - يهيمن عليه الإسلام . يهيمن عليه بتصوره النظيف للحياة البشرية ، ويهيمن عليه بتشريعه المنبثق من هذا التصور . وكان المرجع فيه ، مرجع الرجال والنساء جميعا ، إلى الله ورسوله . وإلى حكم الله وحكم رسوله . فإذا نزل الحكم فهو القضاء الأخير . . وبحكم وجود هذا المجتمع وسيطرة تصوره وتقاليده على الحياة كان الأمر سهلا بالنسبة للمرأة لكي تصوغ نفسها كما يريد الإسلام . وكان الأمر سهلا بالنسبة للأزواج كي ينصحوا نساءهم ويربوا أبناءهم على منهج الإسلام . .
نحن الآن في موقف متغير . نحن نعيش في جاهلية . جاهلية مجتمع . وجاهلية تشريع . وجاهلية أخلاق . وجاهلية تقاليد . وجاهلية نظم . وجاهلية آداب . وجاهلية ثقافة كذلك ! !
والمرأة تتعامل مع هذا المجتمع الجاهلي ، وتشعر بثقل وطأته الساحقة حين تهم أن تلبي الإسلام ، سواء اهتدت إليه بنفسها ، أو هداها إليه رجلها . زوجها أو أخوها أو أبوها . .
هناك كان الرجل والمرأة والمجتمع . كلهم . يتحاكمون إلى تصور واحد ، وحكم واحد ، وطابع واحد . فأما هنا فالرجل يتحاكم إلى تصور مجرد لا وجود له في دنيا الواقع . والمرأة تنوء تحت ثقل المجتمع الذي يعادي ذلك التصور عداء الجاهلية الجامح ! وما من شك أن ضغط المجتمع وتقاليده على حس المرأة أضعاف ضغطه على حس الرجل !
وهنا يتضاعف واجب الرجل المؤمن . إن عليه أن يقي نفسه النار ! ثم عليه أن يقي أهله وهم تحت هذا الضغط الساحق والجذب العنيف !
فينبغي له أن يدرك ثقل هذا الواجب ليبذل له من الجهد المباشر أضعاف ما كان يبذله أخوه في الجماعة المسلمة الأولى . ويتعين حينئذ على من يريد أن ينشئ بيتا أن يبحث أولا عن حارسة للقلعة ، تستمد تصورها من مصدر تصوره هو . . من الإسلام . . وسيضحي في هذا بأشياء : سيضحي بالالتماع الكاذب في المرأة . سيضحي بخضراء الدمن ! سيضحي بالمظهر البراق للجيف الطافية على وجه المجتمع . ليبحث عن ذات الدين ، التي تعينه على بناء بيت مسلم ، وعلى إنشاء قلعة مسلمة ! ويتعين على الآباء المؤمنين الذين يريدون البعث الإسلامي أن يعلموا أن الخلايا الحية لهذا البعث وديعة في أيديهم وأن عليهم أن يتوجهوا إليهن وإليهم بالدعوة والتربية والإعداد قبل أي أحد آخر . وأن يستجيبوا لله وهو يدعوهم : ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ) ؛
ونرجع الكرة - بهذه المناسبة - إلى طبيعة الإسلام التي تقتضي قيام الجماعة المسلمة التي يهيمن عليها الإسلام ، والتي يتحقق فيها وجوده الواقعي . فهو مبني على أساس أن تكون هناك جماعة . الإسلام عقيدتها ، والإسلام نظامها ، والإسلام شريعتها ، والإسلام منهجها الكامل الذي تستقي منه كل تصوراتها .
هذه الجماعة هي المحضن الذي يحمي التصور الإسلامي ويحمله إلى النفوس ، ويحميها من ضغط المجتمع الجاهلي ، كما يحميها من فتنة الإيذاء سواء .
ومن ثم تتبين أهمية الجماعة المسلمة التي تعيش فيها الفتاة المسلمة والمرأة المسلمة ، محتمية بها من ضغط المجتمع الجاهلي حولها . فلا تتمزق مشاعرها بين مقتضيات تصورها الإسلامي وبين تقاليد المجتمع الجاهلي الضاغط الساحق . ويجد فيها الفتى المسلم شريكة في العش المسلم ، أو في القلعة المسلمة ، التي يتألف منها ومن نظيراتها المعسكر الإسلامي .
إنها ضرورة - وليست نافلة - أن تقوم جماعة مسلمة ، تتواصى بالإسلام ، وتحتضن فكرته وأخلاقه وآدابه وتصوراته كلها ، فتعيش بها فيما بينها ، وتعيش لها تحرسها وتحميها وتدعو إليها ، في صورة واقعية يراها من يدعون إليها من المجتمع الجاهلي الضال ليخرجوا من الظلمات إلى النور بإذن الله . إلى أن يأذن الله بهيمنة الإسلام . حتى تنشأ الأجيال في ظله ، في حماية من الجاهلية الضاربة الأطناب . .
توبة نصوحا : بالغة الغاية في النصح ، وقوامها ثلاثة أمور : الندم على ما فات ، والإقلاع في الحال ، والعزم على عدم العودة إلى المعاصي أبدا ، كما لا يعود اللبن إلى الضِّرع .
يوم لا يخزي الله النبي : لا يصيبهم بالخزي أو الانكسار أو الفضيحة .
بين أيديهم : أمامهم ، يسعى نور الإيمان بهم على الصراط .
8- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
دعوة من لله تعلى للذين آمنوا أن يتوبوا إليه سبحانه وتعالى توبة بالغة الغاية في النصح ، كأنها تنصح صاحبها وتدعوه إلى ثلاثة أشياء :
2- الإقلاع في الحال عن كل معصية .
3-العزم الأكيد على الطاعة والبعد عن كل معصية في المستقبل ، والتصميم على ألاّ يعود إلى المعاصي أبدا ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع .
من فعل ذلك وتاب إلى الله توبة صادقة ، كان جديرا بوعد الله له بأن يغفر له ذنوبه ، وأن يدخله جنات وبساتين تجري من تحتها الأنهار ، مع الكرامة والرعاية ، والبعد عن المهانة والزراية ، والعذاب الأليم الذي يلقاه المشركون ، ومن تكريم المؤمنين أن يضمهم الله إلى النبي الكريم في قوله سبحانه : { يوم لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ . . . } وفيه تعريض بخزي الكافرين ومهانتهم في النار .
{ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ . . . }
وهذه جملة مستأنفة لبيان حال المؤمنين عند مرورهم على الصراط ، حيث يجدون نور إيمانهم يسعى أمامهم وعن يمينهم .
كما جاء في سورة الحديد : { ويجعل لكم نورا تمشون به . . . } ( الحديد : 28 ) .
{ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول المؤمنون راغبين راجين بعد أن يلهمهم الله الدعاء :
ربنا أتتم لنا نورنا حتى نسير فيه إلى الجنة ، واغفر لنا وسامحنا ، وامح عنا ذنوبنا ، إنّ كل شيء بيدك ، وأنت على كل شيء قدير ، من المغفرة والتوبة والرضوان .
هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين ، في ذلك اليوم يُشاهد المؤمنون غرّا محجَّلين من آثار الوضوء ، تسطع جباههم وأيديهم بالنور من آثار الطهور ، فيعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .
{ توبة نصوحا } : أي توبة صادقة بأن لا يعاد إلى الذنب ولا يراد العود إليه .
{ يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا } : أي بإدخالهم النار .
{ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } : أي أمامهم ومن كل جهاتهم على قدر أعمالهم .
{ ربنا أتمم لنا نورنا } : أي إلى الجنة ، لأن المنافقين ينطفئ نورهم .
وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً } هذا هو النداء الثاني الذي ينادي فيه الله تعالى عباده المؤمنين يأمرهم فيه بالتوبة العاجلة النصوح التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ويعدهم ويبشرهم يعدهم بتكفير سيئاتهم ، يبشرهم بالجنة دار النعيم المقيم فيقول { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم } أي بعد ذلك { جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه } أي بإدخالهم الجنة . وقوله تعالى { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } أي وهم مجتازون الصراط يسألون ربهم أن يبقي لهم نورهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجوا من السقوط في جهنم كما يسألونه أن يغفر لهم ذنوبهم التي قد يردون بها إلى النار بعد اجتياز الصراط .
وقولهم : إنك على كل شيء قدير هذا توسل منهم لقبول دعائهم حيث توسلوا بصفة القوة والقدرة لله تعالى فقالوا إنك على كل شيء قدير فأتمم لنا نورنا واغفر لنا .
- وجوب التوبة الفورية على كل من أذنب من المؤمنين والمؤمنات وهى الإقلاع من الذنب فوراً أي تركه والتخلي عنه ، ثم العزم على أن لا يعود إليه في صدق ، ثم ملازمة الندم والاستغفار كلما ذكر ذنبه استغفر ربه وندم على فعله وإن كان الذنب متعلقاً بحق آدمي كأخذ ماله أو ضرب جسمه أو انتهاك عرضه وجب التحلل منه حتى يعفو ويسامح .
{ توبة نصوحا } قال عمر بن الخطاب : التوبة النصوح هي أن تتوب من الذنب ثم لا تعود إليه أبدا ولا تريد أن تعود . وقيل : معناه توبة خالصة فهو من قولهم عسل ناصح إذا خلص من الشمع ، وقيل : هو أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت كتوبة الثلاثة الذين خلفوا ، قال الزمخشري : وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي والنصح في الحقيقة صفة التائبين وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم وقد تكلمنا على التوبة في قوله : { وتوبوا إلى الله جميعا } [ النور : 31 ] في النور { يوم لا يخزي الله النبي } العامل في يوم يحتمل أن يكون ما قبله أو ما بعده أو محذوف تقديره اذكر ، والوقف والابتداء يختلف على ذلك .
{ والذين آمنوا } يحتمل أن يكون معطوفا على النبي أو مبتدأ وخبره بعده .