سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة
نزلت هذه السورة بعد سورة " الصف " السابقة . وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف ، ولكن من جانب آخر ، وبأسلوب آخر ، وبمؤثرات جديدة .
إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية ؛
وأن هذا فضل من الله عليها ؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين - وهم العرب - منة كبرى تستحق الالتفات والشكر ، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول ، واحتملت الأمانة ؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة ، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد . بعدما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء ؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا ، ولا وظيفة له في إدراكها ، ولا مشاركة له في أمرها !
تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين . من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص ، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة . ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة ، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان .
وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى ؛ في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة . وتخلصها من الجواذب المعوقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح ، وموروثات البيئة والعرف . وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى ، والاستعداد النفسي لها . وتشير إلى حادث معين . حيث كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية ؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به - على عادة الجاهلية - من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة ! وتركوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قائما . فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون ! كما تذكر الروايات ، التي قد لا تكون دقيقة من حيث العدد ، ولكنها ثابتة من حيث وقوع هذه الحركة من عدد من الحاضرين اقتضى التنبيه إليها في القرآن الكريم .
وهي حادثة تكشف بذاتها عن مدى الجهد الذي بذل في تربية تلك الجماعة الأولى حتى انتهت إلى ما انتهت إليه ؛ وحتى صارت ذلك النموذج الفريد في تاريخ الإسلام وفي تاريخ البشرية جميعا . وتلهمنا الصبر على مشقة بناء النفوس في أي جيل من الأجيال ، لتكوين الجماعة المسلمة التي تنهض بحمل أمانة هذه العقيدة ، وتحاول تحقيقها في عالم الواقع كما حققتها الجماعة الأولى .
وفي السورة مباهلة مع اليهود ، بدعوتهم إلى تمني الموت للمبطلين من الفريقين وذلك ردا على دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس ، وأنهم شعب الله المختار ، وأن بعثة الرسول في غيرهم لا تكون ! كما كانوا يدعون ! مع جزم القرآن بأنهم لن يقبلوا هذه المباهلة التي دعوا إليها فنكلوا عنها لشعورهم ببطلان دعواهم . وتعقب السورة على هذا بتقرير حقيقة الموت الذي يفرون منه ، وأنه ملاقيهم مهما فروا ، وأنهم مردودون إلى عالم الغيب والشهادة فمنبئهم بما كانوا يعملون . . وهو تقرير لا يخص اليهود وحدهم ، إنما يلقيه القرآن ويدعه يفعل فعله في نفوس المؤمنين كذلك . فهذه الحقيقة لا بد أن تستقر في نفوس حملة أمانة الله في الأرض ، لينهضوا بتكاليفها وهم يعرفون الطريق !
هذا هو اتجاه السورة ، وهو قريب من اتجاه سورة الصف قبلها ، مع تميز كل منهما بالجانب الذي تعالجه ، وبالأسلوب الذي تأخذ القلوب به ، والظلال التي تلقيها هذه وتلك في الإتجاه الواحد العام . فلننظر كيف يتناول الأسلوب القرآني هذا الاتجاه . .
( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، الملك القدوس العزيز الحكيم ) . .
هذا المطلع يقرر حقيقة التسبيح المستمرة من كل ما في الوجود لله ؛ ويصفه - سبحانه - بصفات ذات علاقة لطيفة بموضوع السورة . السورة التي اسمها " الجمعة " وفيها تعليم عن صلاة الجمعة ، وعن التفرغ لذكر الله في وقتها ، وترك اللهو والتجارة ، وابتغاء ما عند الله وهو خير من اللهو ومن التجارة . ومن ثم تذكر : ( الملك ) . . الذي يملك كل شيء بمناسبة التجارة التي يسارعون إليها ابتغاء الكسب . وتذكر( القدوس )الذي يتقدس ويتنزه ويتوجه إليه بالتقديس والتنزيه كل ما في السماوات والأرض ، بمناسبة اللهو الذي ينصرفون إليه عن ذكره . وتذكر( العزيز ) . . بمناسبة المباهلة التي يدعى إليها اليهود والموت الذي لا بد أن يلاقي الناس جميعا والرجعة إليه والحساب . وتذكر( الحكيم ) . . بمناسبة اختياره الأميين ليبعث فيهم رسولا يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . . وكلها مناسبات لطيفة المدخل والاتصال .
( سورة الجمعة مدنية ، وآياتها 11 آية ، نزلت بعد سورة يوسف )
وقد عُنيت السورة بتربية المسلمين وجمعهم على الحق والإيمان ، ودعوتهم إلى المحافظة على صلاة الجمعة ، والامتناع عن الانشغال بغيرها من اللهو أو البيع ، وقد مهدت لذلك ببيان أن كل شيء يسبح بحمد الله . وقد منّ الله على العرب بإرسال نبي الهدى والرحمة ليرشدهم إلى الخير ، ويأخذ بأيديهم إلى الطهارة والفضيلة ، وقارنت السورة بين المسلمين واليهود ، وعيَّرت اليهود بإهمالهم تعاليم التوراة وإعراضهم عنها ، وشبههم القرآن بالحمار يحمل كتب العلم ولا يستفيد بها ، وهو تشبيه رائع يفيد أن التوراة بشرت بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعت أهلها إلى الإيمان به ، لكنهم لم يستفيدوا بهداية التوراة ، فحرموا أنفسهم من الانتفاع بأبلغ نافذ مع قرب هذا الانتفاع منهم .
بدأت السورة بمطلع رائع ، يقرر حقيقة التسبيح المستمر من كل ما في الوجود . ( الآية : 1 ) .
وجاء في تفسير النسفي : التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة ، يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . } ( الإسراء : 44 ) .
أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفته بذلك . i
وبينت السورة أن الله قد اختار العرب ليرسل فيهم نبيّ آخر الزمان ، ليطهرهم ويعلمهم القرآن والأحكام الشرعية ، وحسن تقدير الأمور بعد أن كانوا في الجاهلية في ضلال وكفر وانحلال . ( آية : 2 ) .
وقد وصف جعفر بن أبي طالبii ضلال الجاهلية للنجاشي ملك الحبشة ، فقال : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونُسيء الجوار ، ويأكل القويّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
لقد اختار الله الجزيرة العربية لتحمل رسالة الإصلاح ، وليمتدّ هذا النور الهادي إلى ممالك الفرس والروم ، حيث كانت هذه البلاد العريقة قد انغمست في الترف والانحلال . .
وبين مظاهر الفساد الشامل وُلد الرجل الذي وحّد العالم جميعهiii . وقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أولياؤه من دون الناس ، فبينت الآيات أنهم لم يعودوا صالحين لحمل رسالة السماء ، فقد أخلدوا إلى الدنيا ، وكرهوا الموت لأنهم لم يقدّموا عملا صالحا ، بل قدّموا الدسّ والخداع والوقيعة : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } . ( الجمعة : 7 ) . مطّلع عليهم وسيجزيهم على عملهم . ( الآيات : 5-8 ) .
والمقطع الأخير من السورة يتحدث عن صلاة الجمعة ، وهي فريضة أسبوعية يتلاقى المسلمون فيها لتعلم أمور دينهم ، وتنظيم حياتهم ، وتفقّد شئونهم ، وهي وسيلة للعبادة والطاعة ، وصفاء النفس ، وطهارة الروح .
والإسلام دين ودنيا ، وعقيدة وسلوك ، وشرائع وآداب ، وعلم وعمل ، وعبادة وسيادة .
فإذا انتهت صلاة الجمعة خرج المسلم باحثا عن رزقه ، نشيطا في عمله فعبادة الله تكون في المسجد بالصلاة ، وتكون خارج المسجد بالتجارة والزراعة وطلب القوت من حلال .
وفي الحديث الصحيح : " إن لربك عليك حقا ، وإن لبدنك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه " iv .
وكان عِراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين . v .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( 2 ) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 4 ) }
يسبح لله : ينزّهه ويمجّده ويدلّ عليه .
القدّوس : البليغ في النزاهة عن النقائص ، البالغ غاية الطهر .
العزيز : القادر ، الغالب ، القاهر .
1- { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } .
تأتي مادة التسبيح بالفعل الماضي ، كما سبق قريبا في سورة الحديد ، وتأتي بالفعل المضارع للدّلالة على الحدوث والتجدد ، والاستمرار في التسبيح في الحال والاستقبال .
وتأتي بصيغة الأمر ، مثل قوله تعالى : سبِّح باسم ربّك الأعلى . ( الأعلى : 1 ) .
وفي ذلك دلالة على أنّ هذا الكون العظيم ناطق بالتسبيح والتنزيه والحمد لله ، سواء أكان ذلك بلسان الحال أم بلسان المقال .
قال تعالى : وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . ( الإسراء : 44 ) .
أي : يسبح وينزه الله ويقدّسه ما في السماوات : من الملائكة والنجوم والأفلام ، والشموس والأقمار ، وما في الأرض : من نبات وحيوان ، وإنسان وجماد ، وبحار وأنهار ، وطيور ووحوش وحشرات ، وليل ونهار ، وغير ذلك .
الْقُدُّوسِ : المنزّه عن النقائص ، البالغ غاية الطهر .
الْعَزِيزِ : القادر الغالب القاهر .
الْحَكِيمِ : المتقن للأمور ، بديع السماوات والأرض ، في غاية الإتقان والحكمة ، والتقدير الحسن لجميع ما خلق ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا .
سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة الصف . وهي على غرار السور المدنية في معالجتها لتهذيب الأخلاق ، وتثبيت الإيمان ، وبناء مجتمع إسلامي فاضل .
فبعد أن وصف الله تعالى نفسه بصفات الكمال ، وأن كل شيء في هذا الوجود يسبح له ، بين أنه بعث في هذه الأمة رسولا منهم يتلو عليهم القرآن الكريم ، ويزكيهم بالأخلاق الفاضلة ، ويطهرهم من الشرك والخرافات ، ويفقّههم في الدين ويسلحهم بالعلم النافع ، ليحملوا راية الإسلام ، وينشروا مشعل الهداية في العالم .
وأنه سيجيء بعدهم آخرون منهم يسيرون على هدى الإسلام وينشرون هذا الدين في الشرق والغرب تحت راية القرآن .
ثم نعى على اليهود تركهم العمل بالتوراة ، وتعاليهم على الناس ، ودعواهم بأنهم أولياء الله وأحباؤه ، وتحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين ، ولكنهم لا يتمنونه أبدا ، لحرصهم على الحياة ، وجمع المال ، وعبادة المادة ، مع أن كل إنسان في هذا الوجود مصيره إلى الموت .
ثم يأتي إلى موضوع صلاة الجمعة ، وبذلك سميت " سورة الجمعة " بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } .
فعلى المؤمنين أن يسارعوا إلى صلاة الجمعة عندما يسمعون النداء ، ويجب أن يتركوا أعمالهم وتجارتهم ويتوجهوا إلى المساجد أينما كانوا ، وبعد أن تنقضي الصلاة لهم أن يسعوا إلى أعمالهم وطلب الرزق .
وفي ختام السورة يعاتب الله بعض المؤمنين على تركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، وذهابهم إلى السوق لرؤية العير القادمة من الشام . ذلك أن هذا لا يليق بالمؤمنين ، فعليهم أن يلزموا المسجد إلى نهاية الصلاة ، والله قد تكفل لهم بالرزق وهو خير الرازقين .
القدّوس : صفة من صفات الله ومعناها : المنزه عن النقائص .
يسبّح لله وينزّهه عما لا يليق به كلُّ ما في هذا الوجود من بشرٍ وحيوان وشجر وجماد ، هو الملكُ القُدّوس المنزه عن النقائص ، المتصفُ بالكمال ، { العزيز الحكيم } .
مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آية . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ) . وعنه قال : قال رسول الله :( نحن الآخرون الأولون{[1]} يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد{[2]} أنهم أوتوا الكتاب بن قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال - يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ) .
تقدم الكلام فيه . وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم " الملك القدوس العزيز الحكيم " كلها رفعا ، أي هو الملك .
سورة الجمعة{[1]}
مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام ، وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية{[2]} الاجتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن {[3]}بعث للتزكية بالاجتماع عليه في الجهاد{[4]} و{[5]}غيره في العسر واليسر والمنشط والمكره ، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته الحاثة{[6]} على قوة التواصل والاجتماع ، والحاملة على دوام الإقبال على المزكى والحب له والاتباع ( بسم الله ) الذي [ أحاط-{[7]} ] . علمه بكل معلوم فتم بيانه ( الرحمان ) الذي عمت{[8]} نعمة بيانه بعد شمول كرامة إيجاده فهو العظيم شأنه ( الرحيم ) الذي خص حزبه بالتوفيق لما يرضاه فثبت في سويداء كل منهم حبه له وإيمانه به .
ولما ختمت الصف بالإقبال ببعض بني إسرائيل على{[65184]} جنابه الأقدس بعد أن زاغوا فأزاغ الله{[65185]} قلوبهم كلهم أو الشاذ منهم بما أفهمه إطلاق الضمير عليهم ثم تأييدهم على من استمر منهم على الزيغ ، فثبت أن له تمام القدرة المستلزم لشمول العلم {[65186]}اللازم منه{[65187]} التنزه عن كل شائبة نقص ، وكان سبحانه قد ذكر{[65188]} التسبيح الذي هو الأعظم الأشهر للتنزيه بلفظ الماضي ثلاث مرات في افتتاح ثلاث سور ، وذلك نهاية الإثبات المؤكد ، فثبت بذلك أنه وقع تنزيهه من كل ناطق وصامت ، أخبر أول هذه السورة{[65189]} أن ذلك التنزيه على وجه التجديد{[65190]} والاستمرار بالتعبير بالمضارع لاستمرار ملكه فقال : { يسبح } أي يوقع{[65191]} التنزيه الأعظم الأبهى الأكمل { لله } أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وأكد بذلك لما في التغابن ولم يحتج بعد الإقرار بالوقوع على هذا الوجه إلى{[65192]} التأكيد بأكثر من مرة وجعل بين كل مسبحتين سورة خالية من ذلك ليكون ذلك أدل{[65193]} على قصد التأكيد من حيث شدة الاعتناء بالذكر ، وإن وقع فصل ويكون التأكيد أكثر تنبيهاً وأعظم صدعاً وتذكيراً .
ولما كان تقريع العاقل الناطق بطاعة الصامت أعظم ، قال : { ما في السماوات } وإن كان العاقل يدخل في ذلك ما عليه فيكون تسبيحه تارة طوعاً موافقة للأمر ، وتارة كرهاً بالانقياد مع الإرادة ، وتسبيح الصامت طوعاً في كل حال . ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا ، دعا ذلك إلى التأكيد لاحتياجهم إليه فقال : { وما في الأرض } كذلك .
ولما ثبت بالسور الثلاث الماضية أن الموجودات أوقعت له التسبيح ، وأخبرت هذه باستمرار ذلك على سبيل التجديد ، دل ذلك مع التنزيه عن النقائص على إثبات الكمال الذي لا يكون إلا{[65194]} لملك عظيم الشأن مطاع الأمر ، وكان الاقتصار على الصامت بالتعبير بما هو ظاهر فيه ربما أوهم شيئاً ، قال مصرحاً بما أفهمه السياق : { الملك } أي الذي ثبتت{[65195]} له جميع الكمالات فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح{[65196]} ظاهراً { القدوس } الذي انتفت عنه جميع النقائص ، فلا يكون شيء إلا بإذنه وتنزه عن إحاطة أحد من الخلق بعلمه أو إدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله ، والتدبر لمفاهيم نعوته وجلاله ، وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده ، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول ما لا يفعل {[65197]}أو يبني{[65198]} شيئاً من أموره على غير إحكام ، وقد مضى شرح الاسمين الشريفين قريباً وذكر خلاصة شرحهما{[65199]} بما هو خاصة الملك وآية الطهارة للطاهر{[65200]} فقال : { العزيز } أي الذي يغلب كل شيء ، لا يغلبه شيء ، فلو أراد لجعل العقلاء كلهم أيضاً مع تسبيحهم بالجري تحت مراده طوعاً وكرهاً مسبحين بالموافقة لأمره طوعاً { الحكيم * } الذي يوقع كل ما أراده في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل إيمانهم ، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله }[ الصف : 14 ] كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فاتبع ذلك بذكر هذه الأمة ، والثناء عليها{[65201]} ، فافتتحت السورة بالتنزيه عما أشار إليه قوله :{ وكفرت طائفة }[ الصف : 14 ] فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالبنوة ، فنزه سبحانه نفسه عن ذلك ثم{[65202]} قال : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } [ الجمعة : 2 ] إلى قوله : { ذو الفضل العظيم } [ الجمعة : 4 ] ثم{[65203]} أعلم تعالى بحال طائفة لاح لهم نور{[65204]} الهدى و{[65205]}وضح لها سبيل{[65206]} الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى :{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً }[ الجمعة : 5 ] الآيات وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمه الله إياه لئلا يكونوا فيما يتلو عليهم نبيهم من الآيات ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك الممتحنين ، فإنهم مقتوا ولعنوا بعد حملهم التوراة ، وزعموا أنهم التزموا حمله والوفاء به فوعظ هؤلاء بمثالهم{[65207]} لطفاً من الله لهذه الأمة { وما يذكر إلا أولوا الألباب } انتهى .