والآن - وبينما هم في هذا الأمان على ظهر الأرض الذلول ، وفي هذا اليسر الفائض بإذن الله وأمره . . الآن يهز هذه الأرض الساكنة من تحت أقدامهم هزا ويرجها رجا فإذا هي تمور . ويثير الجو من حولهم فإذا هو حاصب يضرب الوجوه والصدور . . يهز هذه الأرض في حسهم ويثير هذا الحاصب في تصورهم ، لينتبهوا من غفلة الأمان والقرار ، ويمدوا بأبصارهم إلى السماء وإلى الغيب ، ويعلقوا قلوبهم بقدر الله :
( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ? أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ? فستعلمون كيف نذير ! ولقد كذب الذين من قبلهم . فكيف كان نكير ? ) . .
والبشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة الذلول ، ويحلبونها فينالون من رزق الله فيها نصيبهم المعلوم ! يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب ، في بعض الأحيان ، عندما يأذن الله بأن تضطرب قليلا فيرتج كل شيء فوق ظهرها أو يتحطم ! ويمور كل ما عليها ويضطرب فلا تمسكه قوة ولا حيلة . ذلك عند الزلازل والبراكين ، التي تكشف عن الوحش الجامح ، الكامن في الدابة الذلول ، التي يمسك الله بزمامها فلا تثور إلا بقدر ، ولا تجمح إلا ثواني معدودات يتحطم فيها كل ما شيد الإنسان على ظهرها ؛ أو يغوص في جوفها عندما تفتح أحد أفواهها وتخسف كسفه منها . . وهي تمور . . البشر ولا يملكون من هذا الأمر شيئا ولا يستطيعون .
وهم يبدون في هول الزلزال والبركان والخسف كالفئران الصغيرة محصورة في قفص الرعب ، من حيث كانت آمنة لاهية غافلة عن القدرة الكبرى الممسكة بالزمام !
والبشر كذلك يشهدون العواصف الجامحة الحاصبة التي تدمر وتخرب ، وتحرق وتصعق . وهم بإزائها ضعاف عاجزون ، بكل ما يعلمون وما يعملون . والعاصفة حين تزأر وتضرب بالحصى الحاصب ، وتأخذ في طريقها كل شيء في البر أو البحر أو الجو يقف الإنسان أمامها صغيرا هزيلا حسيرا حتى يأخذ الله بزمامها فتسلس وتلين !
والقرآن يذكر البشر الذين يخدعهم سكون الدابة وسلامة مقادتها ، ويغريهم الأمان بنسيان خالقها ومروضها . يذكرهم بهذه الجمحات التي لا يملكون من أمرها شيئا . والأرض الثابتة تحت أقدامهم ترتج وتمور ، وتقذف بالحمم وتفور . والريح الرخاء من حولهم تتحول إلى إعصار حاصب لا تقف له قوة في الأرض من صنع البشر ، ولا تصده عن التدمير . . يحذرهم وينذرهم في تهديد يرج الأعصاب ويخلخل المفاصل .
{ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور 16 أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير 17 ولقد كذّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير 18 أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضن ما يمسكهنّ إلا الرحمان إنه بكل شيء بصير 19 }
من في السماء : هو ربكم الأعلى ، أو من في السماء عرشه .
يخسف بكم الأرض : يغيبكم فيها ، ومنه قوله تعالى : فخسفنا به وبداره الأرض . . . ( القصص : 81 ) .
تمور : تهتز وتضطرب ، وأصل المور : التردد في المجئ والذهاب .
16- أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور .
هذه الآيات تهديد ووعيد لكفار مكة الذين أنكروا الوحي والرسالة ، وفيها تهديد لك كفّار عنيد .
هل تأمنون بطش الله وعقوبته ، بأن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون فظل يهوى فيها ؟ وهو سبحانه في السماء عرشه ، أو ملكه وملكوته ، أو أمره وقضاؤه ، وبيده الخلق والأمر ، وهو القادر على أن يعذبكم من فوقكم ، أو من تحت أرجلكم .
ونحو الآية قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم . . . ( الأنعام : 65 ) .
{ أأمنتم من في السماء . . . } أي أأمنتم من في السماء وهو الله تعالى أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم . والآية من متشابه القرآن . وقد أجمعت القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه بليس كمثله شيء ؛ وقد أوضح الآلوسي هذا غاية الإيضاح في تفسير هذه الآية . { فإذا هي تمور } تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها إلى أسفل سافلين ، من المور ، وأصله التردد في الذهاب والمجئ . يقال : مار يمور ، تحرك وجاء وذهب .
{ 16 - 18 } { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
هذا تهديد ووعيد ، لمن استمر في طغيانه وتعديه ، وعصيانه الموجب للنكال وحلول العقوبة ، فقال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وهو الله تعالى ، العالي على خلقه .
{ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } بكم وتضطرب ، حتى تتلفكم وتهلككم{[1178]}
قوله تعالى : " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض " قال ابن عباس : أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه . وقيل : تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته . وخص السماء وإن عم ملكه ، تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض . وقيل : هو إشارة إلى الملائكة . وقيل : إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب{[15194]} .
قلت : ويحتمل أن يكون المعنى : أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون . " فإذا هي تمور " أي تذهب وتجيء . والمور : الاضطراب بالذهاب والمجيء . قال الشاعر :
رَمَيْنَ فَأَقْصَدْنَ القلوب ولن ترى *** دَماً مَائِراً إلا جَرَى في الحَيَازِمِ
جمع حيزوم وهو وسط الصدر . وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور . وقال المحققون : أمنتم من فوق السماء ، كقوله : " فسيحوا في الأرض{[15195]} " [ التوبة : 2 ] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز ، لكن بالقهر والتدبير . وقيل : معناه أمنتم من على السماء ، كقوله تعالى : " ولأصلبنكم في جذوع النخل{[15196]} " [ طه : 71 ] أي عليها . ومعناه أنه مديرها ومالكها ، كما يقال : فلان على العراق والحجاز ، أي واليها وأميرها . والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة ، مشيرة إلى العلو ؛ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند . والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السُّفل والتحت . ووصفه بالعلو والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود ، لأنها صفات الأجسام . وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء ، لأن السماء مهبط الوحي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته ؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة ، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان . ولا مكان له ولا زمان . وهو الآن على ما عليه كان . وقرأ قنبل عن ابن كثير " النشور وأمنتم " بقلب الهمزة الأولى واوا وتخفيف الثانية . وقرأ الكوفيون والبصريون وأهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين ، وخفف الباقون . وقد تقدم جميعه .