وهذه صورة من صور التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء في المصير :
( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ؛ ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم . كمن هو خالد في النار ، وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ? ) . .
إن هذه الصورة الحسية من النعيم والعذاب ترد في مواضع من القرآن . وقد تجيء معها صور معنوية أو تجيء مجردة . كما أن صور النعيم والعذاب المجردة عن الحسيات تجيء في مواضع أخرى .
والله الذي خلق البشر ، أعلم بمن خلق ، وأعرف بما يؤثر في قلوبهم ، وما يصلح لتربيتهم . ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم . والبشر صنوف ، والنفوس ألوان ، والطبائع شتى . تلتقي كلها في فطرة الإنسان ، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان . ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب ، وصنوف المتاع والآلام ، وفق علمه المطلق بالعباد . .
هنالك ناس يصلح لتربيتهم ، ولاستجاشة همتهم للعمل كما يصلح لجزائهم ويرضي نفوسهم أن يكون لهم أنهار من ماء غير آسن ، أو أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، أو أنهار من عسل مصفى ، أو أنهار من خمر لذة للشاربين . أو صنوف من كل الثمرات . مع مغفرة من ربهم تكفل لهم النجاة من النار والمتاع بالجنات . . فلهؤلاء ما يصلح لتربيتهم ، وما يليق لجزائهم .
وهنالك ناس يعبدون الله لأنهم يشكرونه على نعمه التي لا يحصونها . أو لأنهم يحبونه ويتقربون إليه بالطاعات تقرب الحبيب للحبيب . أو لأنهم يستحيون أن يراهم الله على حالة لا يحبها . ولا ينظرون وراء ذلك إلى جنة أو إلى نار ، ولا إلى نعيم أو عذاب على الإطلاق ، وهؤلاء يصلح لهم تربية ويصلح لهم جزاء أن يقول الله لهم : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) . . أو أن يعلموا أنهم سيكونون : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . .
ولقد روي عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يصلي حتى تنفر رجلاه . فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ? فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا ? " . .
وتقول رابعة العدوية : " أو لو لم تكن جنة ولا نار لم يعبد الله أحد ، ولم يخشه أحد ? " .
وتجيب سفيان الثوري وقد سألها : ما حقيقة إيمانك ? تقول : " ما عبدته خوفا من ناره ، ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء . عبدته شوقا إليه " . .
وبين هذا اللون وذلك ألوان من النفوس والمشاعر والطباع . . وكلها تجد - فيما جعله الله من نعيم وعذاب ، ومن ألوان الجزاء - ما يصلح للتربية في الأرض ؛ وما يناسب للجزاء عند الله .
والملاحظ عموما أن صور النعيم والعذاب ترق وتشف كلما ترقى السامعون في مراقي التربية والتهذيب على مدى نزول القرآن . وحسب أنواع المخاطبين ، والحالات المتنوعة التي كانت تخاطب بالآيات . وهي حالات ونماذج تتكرر في البشرية في جميع الأعصار .
وهنا نوعان من الجزاء : هذه الأنهار مع كل الثمرات مع المغفرة من الله . والنوع الآخر :
( كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . .
وهي صورة حسية عنيفة من العذاب ، تناسب جو سورة القتال ، وتتناسب مع غلظ طبيعة القوم . وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام . فالجو جو متاع غليظ وأكل غليظ . والجزاء ماء حميم ساخن وتقطيع للأمعاء ، التي كانت تحش وتلتهم الأكل كالأنعام !
ولن يكون هؤلاء كهؤلاء في الجزاء ، كما أنهم في الحال والمنهج ليسوا سواء . .
بهذا يختم الجولة الأولى التي بدأت بالهجوم عند افتتاح السورة ، واستمرت في معركة متصلة ، عنيفة ، حتى الختام . .
{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( 15 ) }
مثل الجنة : الوصف العجيب للجنة وصفتها .
آسن : متغير الطعم والرائحة لطول مكثه .
لم يتغير طعمه : لم تصر فيه حموضة كألبان الدنيا .
مصفى : خال من الشمع ومن جميع العلائق والمخلفات .
الأمعاء : جمع معي ، وهو ما ينتهي إليه الطعام في البطن .
15- { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } .
يصف القرآن نعيم المتقين ، فيذكر أحيانا نعيم الجنة الحسي ، وأحيانا ما هو أعلى وأسمى ، وهو رضوان الله ومودته ومعيته سبحانه ، مثل : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا } . ( مريم : 96 ) .
والله تعالى عليم بعباده ومشاربهم وأذواقهم وطوائفهم .
وهنا يفصل القرآن نعيم الجنة ، ويشوق المتقين إلى ما فيها ، وكل ما فيها طيب طاهر نظيف ، طازج مشرق : { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } . ( الزخرف : 71 ) .
صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين ، الذين راقبوا الله وأطاعوه ، فاستحقوا أن ينالوا جزاءه في الآخرة ، في هذه الجنة ما يأتي :
1- أنهار من ماء طازج لم يداخله كدر ، ولم يتغير لونه أو طعمه .
2- أنهار من لبن سليم طازج لم يتغير طعمه بحموضة أو رائحة كريهة كألبان الدنيا .
3- أنهار من خمر لذيذة الطعم ، ليس فيها كراهية ريح ، ولا غائلة سكر ، ولا يجد شاربها إلا اللذة والمتعة .
4- أنهار من عسل مصفى ، قد صفي من القذى ، وما يكون في عسل الدنيا قبل التصفية ، من الشمع وفضلات النحل وغيرها .
5- { ولهم فيها من كل الثمرات . . . } وأنواع الفاكهة اليانعة ذات الألوان البديعة ، والروائح الذكية ، والطعوم الشهية .
كقوله تعالى : { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } . ( الدخان : 55 ) .
وقال سبحانه : { فيهما من كل فاكهة زوجان } . ( الرحمان : 52 ) .
6- { ومغفرة من ربهم . . . } أي : وقد غفر الله ذنوبهم ، وسترها عليهم ، وأمنهم يوم الفزع الأكبر ، وتجاوز عن السيئات ، وكافأهم على الحسنات بفضله ورحمته .
وبذلك جمع لأهل الجنة بين النعيم الحسي والنعيم المعنوي فيما يأتي :
1- الماء : وبدأ به لأنه لا يستغنى عنه في الدنيا .
2- اللبن : وهو يجري مجرى الطعوم لكثير من العرب في غالب أوقاتهم ، فهو حاجة من حاجات الجسم .
3- الخمر : وهي لذة ونعيم لمن استوفى الضروريات والحاجيات ، واحتاج إلى اللذائذ والكماليات .
4- العسل : وفيه الشفاء والحلاوة .
5- المغفرة والستر والرحمة ، والتجاوز والحنان والفضل من الله .
ثم قارن بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ، فقال :
{ كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } .
أي : أيستوي النعيم الحسي والمعنوي لأصحاب الجنة بعذاب أهل النار ، وخلودهم في الجحيم خلودا أبديا سرمديا ، ثم يكلفون بشرب ماء الحميم الذي يغلي غليانا شديدا ، ويشوي وجوههم وفروة رؤوسهم ، وفيه مع حرارته ما يقطع الأمعاء ويذيبها لتنزل من أدبارهم .
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب أهل النار ، اللهم أجرنا من النار ، ومن عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار ، بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار ، اللهم آمين .
{ مثل الجنة } أي صفتها ، مبتدأ خبره : " كمن هو خالد في النار " . أي أمثل الجنة كمثل
جزاء من هو خالد في النار ؟ وقدر الاستفهام في المبتدأ لأنه مرتب على الإنكار السابق في قوله : " أفمن كان على بينة من ربه " . { غير آسن } غير متغير الطعم والريح ؛ لطول مكث ونحوه . وفعله من باب ضرب ودخل ، وفي لغو من باب طرب . { من عسل مصفى } خالص مما يخالطه . قيل : هو تمثيل لما يجري الأشربة في الجنة ؛ بأنواع ما يستطاب منها ، أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها ، والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها .
{ وسقوا ماء حميما } مفرطا في الحرارة ؛ مكان تلك الأشربة اللذيذة التي لأهل الجنة .
{ 15 } { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }
أي : مثل الجنة التي أعدها الله لعباده ، الذين اتقوا سخطه ، واتبعوا رضوانه ، أي : نعتها وصفتها الجميلة .
{ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أي : غير متغير ، لا بوخم ولا بريح منتنة ، ولا بمرارة ، ولا بكدورة ، بل هو أعذب المياه وأصفاها ، وأطيبها ريحا ، وألذها شربا .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بحموضة ولا غيرها ، { وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } أي : يلتذ به شاربه لذة عظيمة ، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس ، ويغول العقل .
{ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } من شمعه ، وسائر أوساخه .
{ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } من نخيل ، وعنب ، وتفاح ، ورمان ، وأترج ، وتين ، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا ، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم .
ثم قال : { وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } يزول بها عنهم المرهوب ، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها ، وتضاعف عذابها ، { وَسُقُوا } فيها { مَاءً حَمِيمًا } أي : حارا جدا ، { فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }
قوله تعالى : " مثل الجنة التي وعد المتقون " لما قال عز وجل : " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات " [ الحج : 14 ] وصف تلك الجنات ، أي صفة الجنة المعدة للمتقين . وقد مضى الكلام في هذا في " الرعد " {[13923]} . وقرأ علي بن أبي طالب " مثال الجنة التي وعد المتقون " . " فيها أنهار من ماء غير آسن " أي غير متغير الرائحة . والآسن من الماء مثل الآجن . وقد أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا إذا تغيرت رائحته . وكذلك أجَنَ الماء يأجُنُ ويأجِنُ أجْنًا وأُجُونًا . ويقال بالكسر فيهما : أجِن وأسِن يأسَن ويأجَن أَسْنًا وأَجْنًا ، قاله اليزيدي . وأسن الرجل أيضا يأسن ( بالكسر لا غير ){[13924]} إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه ، قال زهير :
قد أترك{[13925]} القِرن مصفرًّا أناملُه *** يَمِيدُ في الرمح مَيْدَ المائح الأسِنِ
ويروى " الوسن " . وتأسن الماء تغير . أبو زيد : تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ . أبو عمرو : تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه . وقال اللحياني : إذا نزع إليه في الشبه ، وقراءة العامة " آسن " بالمد . وقرأ ابن كثير وحميد " أسن " بالقصر ، وهما لغتان ، مثل حاذر وحذر . وقال الأخفش : أسن للحال ، وآسن ( مثل فاعل ) يراد به الاستقبال .
قوله تعالى : " وأنهار من لبن لم يتغير طعمه " أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة . " وأنهار من خمر لذة للشاربين " أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها{[13926]} الأيدي كخمر الدنيا ، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون . يقال : شراب لذ ولذيذ بمعنى . واستلذه عده لذيذا . " وأنهار من عسل مصفى " العسل ما يسيل من لعاب النحل . " مصفى " أي من الشمع والقذى ، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل . وفي الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد ] . قال : حديث حسن صحيح . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة ] . وقال كعب : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم . وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . والعسل : يذكر ويؤنث . وقال ابن عباس : " من عسل مصفى " أي لم يخرج من بطون النحل . " ولهم فيها من كل الثمرات " " من " زائدة للتأكيد . " ومغفرة من ربهم " أي لذنوبهم . " كمن هو خالد في النار " قال الفراء : المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار . وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار . فقوله : " كمن " بدل من قوله : " أفمن زين له سوء عمله " [ فاطر : 8 ] . وقال ابن كيسان : مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم . ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم . " وسقوا ماء حميما " أي حارا شديد الغليان ، إذا أدنى منهم شوى وجوههم ، ووقعت فَرْوَةُ رؤوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم . والأمعاء : جمع مِعًى ، والتثنية معيان ، وهو جميع ما في البطن من الحوايا .
ولما تكرر ذكر الجنة والنار في هذه السورة إلى أن ختم بهذه الآية التي قسم الناس فيها إلى أولياء مهتدين وأعداء ضالين معتدين ، فهدى سياقها إلى أن التقدير : أفمن كان على بينة {[59500]}من ربه{[59501]} أحياه الحياة الطيبة في الدارين ، ومن تبع هواه أرداه{[59502]} فيهما ، أتبعه وصف الجنة التي هي دار أوليائه قادهم إليها الهدى ، والنار التي هي دار أعدائه ساقهم إليها الضلال المحتم للردى ، فقال : { مثل الجنة } أي البساتين العظيمة التي تستر{[59503]} داخلها من كثرة أشجارها{[59504]} .
ولما تكرر وعده سبحانه{[59505]} للذين آمنوا بالجنة بالاسم الأعظم الجامع وبعضها بالضمير العائد إليه ، صار الوعد بها في غاية التحقق فعبر عنه هنا بالماضي المبني للمفعول إشارة إلى أنه أمر قد تحقق بأسهل أمر ، وفرغ منه إلى أن صار حاضراً لا مانع منه إلا الوصف الذي علق به الوعد ووصفها بصفات تفيد القطع بأنه لا يقدر عليها إلا الله فصار مجرد ذكرها والإخبار به عنها بصيغة المجهول أعلى لأمره فقال : { التي وعد المتقون } أي الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : مقبل عليه بكليته فهو متبع ، ومعرض عنه جملة ، ومستمع غير منتفع .
ولما كان التقدير : مثل بستان عظيم لا يسقط ورقه ولا ينقطع ثمره ولا يتفطن نعيمه لما فيه من الأنهار المتنوعة ، وكان ما هو بهذه الصفة إنما هو موهوم لنا لا معلوم ، طواه وذكر ما دل عليه من صفة الجنة الموعودة المعلومة بوعد الصادق الذي ثبت صدقه بالمعجزات فقال استئنافاً : { فيها } أي{[59506]} الجنة الموعودة . ولما كان ما يعهدونه من الجنان لا يحتمل أكثر من ثلاثة أنهار ، عبر بالجمع الذي يستعار للكثرة إذا دلت قرينة ، وهي هنا المدح والامتنان ، فقال : { أنهار من ماء } ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم {[59507]}على ثلاثة : حلو وعذب وملح{[59508]} ، مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها للدلالة على أن-{[59509]} فاعل ذلك قادر-{[59510]} مختار{[59511]} ، وقد يكون آسناً أي متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقه{[59512]} أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه قال : { غير آسن } أي ثابت له في وقت ما شيء{[59513]} من الطعم أو الريح أو اللون بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه .
ولما كان أكثر شرابهم بعد الماء اللبن ، ثنى به فقال سبحانه : { وأنهار من لبن } ولما كان التغير غير محمود ، وكانوا يعهدون في الدنيا أن اللبن كله على جميع أنواعه{[59514]} طيب حال نزوله من الضرع مع اختلاف ذوات الدر في الأشكال والأنواع والمقادير والأمزجة ، ومع انفصال كل واحدة منها من الأخرى ، وأنه إنما يتغير{[59515]} بعد حلبه ، عبر بما ينفي التغير في الماضي فقال : { لم يتغير طعمه } أي بنفسه عن أصل خلقته{[59516]} وإن أقام مدى الدهر ، وهذا يفهم أنهم{[59517]} لو أرادوا تغييره{[59518]} لشهوة اشتهوها تغير ، وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة كما كان في الدنيا متنوعاً .
ولما كان أكثر ما بعد اللبن الخمر قال : { وأنهار من خمر } ولما كانت الخمر يكثر طعمها ، وإنما يشربها شاربوها لأثرها ، وأنه متى تغير طعمها زال اسمها ، عرف أن كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن غير متعرض لطعم فقال : { لذة } أي ثابتة لها اللذة ودائمة حال شربها وبعده { للشاربين * } في طيب الطعم وحسن العاقبة{[59519]} .
ولما كان العسل أعزها وأقلها ، أخره وإن كان أجلها فقال : { وأنهار من عسل } ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً بالشمع وغيره من القذى قال : { مصفى } أي هو-{[59520]} صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك ، وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له عنه في وقت ما ، فقد حصل بهذا غاية التشويق{[59521]} إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ به من أشربة الدنيا لأنه غاية ما نعلم من ذلك مجرداً عما ينقصه أو ينغصه مع الوصف بالغزارة والاستمرار قال البغوي{[59522]} : قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سبحان نهر عسلهم . وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . وقال ابن عبد لحكم في فتوح مصر{[59523]} : حدثنا عثمان بن صالح ثنا-{[59524]} ابن لهيعة عن يزيد بن أبي-{[59525]} حبيب أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سأل كعب الأحبار رضي الله عنه : هل تجد لهذا النيل في كتاب الله تعالى خبراً ؟ قال : أي والذي فلق البحر لموسى ، إني لأجده في كتاب الله أن الله عز وجل يوحي إليه في كل عام مرتين ، يوحي إليه عند جريه أن الله يأمرك أن تجري ، فيجري ما كتب الله له ثم يوحي إليه بعد ذلك : يا نيل غر{[59526]} حميداً . حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن{[59527]} يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب الأحبار أنه كان يقول : أربعة أنهار من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا . فالنيل نهر العسل في الجنة ، والفرات نهر الخمر في الجنة . وسيحان نهر الماء في الجنة . وجيحان نهر اللبن في الجنة . حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن أبي جنادة الكناني أنه سمع كعباً يقول : النيل في الآخرة عسلاً{[59528]} أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ، ودجلة في الآخرة لبناً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ، والفرات خمراً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل-{[59529]} ، وجيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله وأصل هذا كله ما في الصحيح في{[59530]} صفة الجنة{[59531]} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة " وقال أبو حيان{[59532]} في حكمة ترتيبها غير ما تقدم : إنه بدئ بالماء الذي لا يستغنى عنه{[59533]} في المشروبات ، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أقوات العرب وغيرهم ، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يتلذذ به ، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب - انتهى . وأحسن منه أنه لما كان السياق للتعجب في ضرب المثل لأنه قول لا ينفك عن غرابة بدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلادهم وشدة حاجتهم إليها ، ولما كان خلوها عن تغير{[59534]} أغرب نفاه ، ولما كان اللبن أقل فكان جريه أنهاراً أغرب ، ثنى-{[59535]} به ، ولما كان الخمر أعز ثلث به ، ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به ، ونبه - مع هذا التذكير بقدرته تعالى - على ما يريد بسبب وبغير سبب فإن هذه المشروبات الثلاثة التي بعضهم متمحض للشرابية كالخمر وبعضها فيه غذائية{[59536]} وهي فيه أغلب ، وهو العسل ، وبعضها ينزع إلى كل منهما وهو اللبن كلها من الماء مع تمايزها مذاقاً وأثراً في الغذاء والدواء وغير ذلك ، فإن الماء أصل النبات ، ومن النبات يكون اللبن{[59537]} والخمر والعسل بما لا يخفى من الأسباب ، وأما الآخرة فغنية عن{[59538]} الأسباب لظهور اسمه الظاهر سبحانه هناك لأنه لا ابتلاء{[59539]} فيها ، وبهذا فهم للترتيب سر آخر وهو أنه-{[59540]} تعالى قدم الماء لأنه الأصل لها ، وتلاه بأقرب الأشياء إليه في الشرابية والطبع : اللبن{[59541]} ، ثم-{[59542]} بما هو أقرب إلى اللبن من جهة أنه شراب فقط ، ثم بالعسل لأنه أبعدها منه .
ولما كانت الثمار ألذ مستطاب بعد {[59543]}سائغ الشراب{[59544]} قال تعالى : { ولهم فيها } ولما كان{[59545]} أهلها متفاوتين{[59546]} في الدرجات فلا تجمع جنان أغلبهم جميع ما في الجنة من الثمار بعض فقال : { من كل الثمرات } أي جميع أصنافها على وجه لا حاجة معه من قلة ولا انقطاع .
ولما كان العيش لا يطيب مع الإنصاف بما يوجب العتب ، قال مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ، لأن الرتب متضائلة عن رتبته سبحانه : { ومغفرة من ربهم } أي المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وأثارها بحيث لا يخشون{[59547]} لها عاقبة بعقاب . لا عتاب وعدم بلوغهم إلى ما يحق له من الشكر سبحانه .
ولما أرشد هذا السياق إلى أن التقدير : أفمن هو في هذا النعيم الأكبر المقيم ، بنى عليه قوله : { كمن هو خالد{[59548]} } أي مقيم إقامة لا انقطاع معها ، ووحده لأن الخلود يعم من فيها على حد سواء { في النار } أي التي لا يطفأ لهيبها ، ولا يفك أسيرها ولا يؤنس غريبها . ولما كان كل واحد من داخليها له سقي يخصه على حسب عمله ولا يظلم ربك أحداً . كان المؤثر لضرهم السقي على الكيفية التي تذكر لا كونه{[59549]} من ساق معين ، بني للمجهول قوله مسنداً إلى ضمير الجمع قوله تعالى : { وسقوا } أي عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة { ماء حميماً } أي في غاية الحرارة { فقطع أمعاءهم * }{[59550]} ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ، وذلك أنه تعالى لما قدم أن المؤمنين في جنات تجري من تحتها الأنهار ، وأن الكافرين مأواهم النار ، وكان التقدير إنكاره على من لم يرتدع للزواجر تنبيهاً على أن عمله عمل من يسوي بين الجنة والنار لأن كون النار جزاء لمثله والجنة جزاء المؤمن صار{[59551]} في حد لا يسوغ إنكاره : أمثل الجنة الموصوفة كمثل النار ، ومن {[59552]}هو خالد{[59553]} في الجنة كمن هو خالد في النار - والله الموفق للصواب{[59554]} .