سورة نوح مكية وآياتها ثمان وعشرون
هذه السورة كلها تقص قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض ؛ وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية ، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ، والحق والباطل .
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة ، الضالة ، الذاهبة وراء القيادات المضللة ، المستكبرة عن الحق ، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق ، المرقومة في كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون .
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني ، وعنايته بأن يهتدي . تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى .
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني ، والعناء المرهق ، والصبر الجميل ، والإصرار الكريم من جانب الرسل - صلوات الله عليهم - لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة . وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية ، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان ! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون ، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم !
هذه الصورة التي يعرضها نوح - عليه السلام - على ربه ، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاما قضاها في هذا الجهد المضني ، والعناء المرهق ، مع قومه المعاندين ، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة . وهو يقول :
رب . إني دعوت قومي ليلا ونهارا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وأصروا واستكبروا استكبارا . ثم إني دعوتهم جهارا . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا . فقلت : استغفروا ربكم ، إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمدكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا . مالكم لا ترجون لله وقارا ? وقد خلقكم أطوارا ? ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ? وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ? والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا . والله جعل لكم الأرض بساطا ، لتسلكوا منها سبلا فجاجا . . !
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر :
( رب إنهم عصوني ، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا . ومكروا مكرا كبارا . وقالوا لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا . وقد أضلوا كثيرا . . . ) . .
وهي حصيلة مريرة . ولكن الرسالة هي الرسالة !
هذه التجربة المريرة تعرض على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة الله في الأرض كلها في آخر الزمان ، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول . . يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل ، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض . ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق ؛ وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة . ثم إرادة الله في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام .
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة ، وعلى الأمة المسلمة بعامة ، وهي الوارثة لدعوة الله في الأرض ، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة ، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك ، وفي وسط كل جاهلية تالية . . ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني . كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة ، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين .
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين ؛ ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولا رحيما بهم ، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل ؛ وذلك لما قدره الله من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين . فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح ، بعدما استنفد كل الوسائل ، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم :
( ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ) . .
( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) . .
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها ، وتأصل جذورها . كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره ، وأحداث الحقيقة الواقعة وفق قدر الله . وذلك من خلال دعوة نوح لقومه : ( قال : يا قوم إني لكم نذير مبين . أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون ) . . وفي حكاية قوله لهم : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ? ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ? وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ? والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ، والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا . .
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم ، وحقيقة نسبهم العريق ! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية . وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها . وهي منهج الله القويم القديم .
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب ، كما تغمره الروعة والخشوع ، وهو يستعرض - بهذه المناسبة - ذلك الجهد الموصول من الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - لهداية البشرية الضالة المعاندة . ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة .
وقد يعن للإنسان أن يسأل : ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل ، وتلك التضحيات النبيلة ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام ?
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن ، وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول ، لم يكتف قومه فيه بالإعراض ، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام . وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى ، والأدب الجميل والبيان المنير .
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ . من رسل يستهزأ بهم ، أو يحرقون بالنار ، أو ينشرون بالمنشار ، أو يهجرون الأهل والديار . . حتى تجيء الرسالة الأخيرة ، فيجهد فيها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ذلك الجهد المشهود المعروف ، هو والمؤمنون معه . ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل ? ?
ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود ، وكل هذه التضحيات ، وكل هذا الجهاد المرير الشاق ? ثم . . ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله ، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار ، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان ? !
والجواب بعد التدبر : أن نعم . . وبلا جدال . . !
إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد ، وكل هذا الصبر ، وكل هذه المشقة ، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل !
ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته ؛ بل أكبر من الأرض وما عليها ؛ بل أكبر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى !
وقد شاءت إرادة الله أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة ، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولا إلى الجهد الإنساني ذاته ، بعون الله وتوفيقه . ولسنا نعلم لم خلق الله هذا الكائن بهذه الخصائص . ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته ؛ ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة ، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس .
لسنا نعلم سر هذا . ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص !
وإذن فلا بد من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان . هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل . وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون . اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض ، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة ، وتضحيات شاقة نبيلة .
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور الله ؛ وأن يكون مستودعا لسر من أسراره ؛ وأن يكون أداة من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود . . وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب . . وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه ، ومن كل هذا الكون الكبير !
كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر - أو جماعة منهم - معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية ، وارتفاعها إلى المستوى الذي يؤهلها لهذا الإتصال . معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق . . . وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أوبعض يوم في عمر البشرية الطويل ، لأن تحققها - ولو في هذه الصورة - يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية ، تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال !
ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها . وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة . وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض ، وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة ، بل كانت حلما أكبر من الخيال ، ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس .
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام ، إلى المستوى الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم . . وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل ، سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى ، أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة .
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند الله ؛ هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر : لا علم ، ولا فلسفة ، ولا فن ، ولا نظام من النظم . وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله ؛ بل انحدرت قيمها وموازينها وانسانيتها ، كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية ، على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين ، وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي ، وأسباب السعادة المادية بجملتها . ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا . ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية ، ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة ، ولم تشعر بكرامة " النفس الإنسانية " قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة . والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة .
وهذا كله يستحق - بدون تردد - كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية ، ومن تضحيات نبيلة ، لإقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض . وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور الله ، وتتصل بروح الله . وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج الله للحياة . وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم ، كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوى الرفيع ، الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ .
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام . وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال . وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب ، وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال . كما ألقت إبراهيم في النار ، ونشرت غيره بالمنشار ، وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ .
ولكن الدعوة إلى الله لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد الله . لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة ، ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور الله ، ويتصل بروح الله !
إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه أزكى السلام - لينبئ عن استقرار إرادة الله على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة ، وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة . وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها . وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون منجواذبها ، ويتحررون من ربقتها . وهذا وحده كسب كبير ، أكبر من الجهد المرير . كسب للدعاة . وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم . وتستحق أن يسجد الله الملائكة لهذا الكائن ، الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء . ولكنه يتهيأ - بجهده هو ومحاولته وتضحيته - لاستقبال قبس من نور الله . كما يتهيأ لأن ينهض - وهو الضعيف العاجز - بتحقيق قدر الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في الحياة . ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة ، ويتحمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة ، لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين ، وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع . وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق ، يهون الجهد ، وتهون المشقة ، وتهون التضحية ، ويتوارى هذا كله ، لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان الله . . .
والآن نستعرض قصة نوح في هذه السورة ، وما تمثله من حقيقة تلك الحقيقة !
( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه : أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم . قال : يا قوم : إني لكم نذير مبين : أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، لو كنتم تعلمون ) . .
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده : ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) . . فهذا هو المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف ، كما يتلقون حقيقة العقيدة . وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله ، وصدرت منه الحياة . وهو الله الذي خلق البشر وأودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده ، فلما انحرفوا عنها وزاغوا أرسل إليهم رسله ، يردونهم إليه . ونوح - عليه السلام - كان أول هؤلاء الرسل - بعد آدم عليه السلام . وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه إلى هذه الأرض ، وممارسته لهذه الحياة ؛ لعله كان معلما لأبنائه وحفدته حتى إذا طال عليهم الأمد بعد وفاته ضلوا عن عبادة الله الواحد ، واتخذوا لهم أصناما آلهة . اتخذوها في أول الأمر أنصابا ترمز إلى قوى قدسوها . قوى غيبية أو مشهودة . ثم نسوا الرمز وعبدوا الأصنام ! وأشهرها تلك الخمسة التي سيرد ذكرها في السورة . فأرسل الله إليهم نوحا يردهم إلى التوحيد ، ويصحح لهم تصورهم عن الله وعن الحياة والوجود . والكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس - عليه السلام - سابقا لنوح . ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم ، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب .
والذي يتجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن ، أن نوحا كان في فجر البشرية ؛ وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاما في دعوته لقومه ، ولا بد أنهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة . . أن طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأن البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية . وذلك قياسا على ما نراه من سنة الله في الأحياء من طول العمر إذا قل العدد ، كأن ذلك للتعويض والتعادل . . والله أعلم بذلك . . إنما هي نظرة في سنة الله وقياس !
تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة وتوكيده ، ثم تذكر فحوى رسالة نوح في اختصار وهي الإنذار : ( أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ) . .
والحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا إليها ، من إعراض واستكبار وعناد وضلال - كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية لربه - تجعل الإنذار هو أنسب ما تلخص به رسالته ، وأول ما يفتتح به الدعوة لقومه ، الإنذار بعذاب أليم ، في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما جميعا .
( سورة نوح مكية ، وآياتها 28 آية ، نزلت بعد سورة النحل )
السورة قصة نبي كريم من أولي العزم من الرسل ، أرسله الله إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان فقاموا دعوته وأنكروا رسالته ، فلفت نوح نظرهم إلى التأمل في خلق السماء والشمس والقمر ، والأرض والنبات وسائر المخلوقات ، ولكنهم صمّوا آذانهم عن سماع الحق ، وحجبوا عيونهم عن النظر في الأدلة الواضحة والحجة الدامغة ، فاستحقوا عقاب الله وأغرقوا بالطوفان في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب شديد .
السورة نموذج حتى لمعاناة الرسل مع أقوامهم ، وجهادهم في سبيل الدعوة ، لقد مكث نوح مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما آمن معه إلا قليل ، ولقد كان عناد قومه سببا في هلاكهم ، وكأن الله أراد أن يحذر أهل مكة من العناد ، وأن يذكرهم بمن أهلك من الكافرين .
قال تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . ( الإسراء : 17 ) .
يعني لقد أهلك الله قوم نوح ، وأهلك من بعده عددا كبيرا كعاد وثمود وفرعون ، وكان هلاكهم جزاء عادلا وعقابا مناسبا لقوم يعلم الله إصرارهم على الكفر وبعدهم عن قبول الحق .
لقد صبر الرسل وصابروا من أجل إبلاغ الدعوة إلى أقوامهم ، وحملوا كلمة الله ناصعة نقية واضحة سليمة ، وعرضوها أمام العيون والقلوب لتبصر وترى آثار قدرة الله وعظيم خلقه ، وليكون إيمانهم عن بينة ويقين ، ولئلا يحتجّ إنسان يوم القيامة بأن الرسالة لم تبلغه .
قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين للناس على الله حجّة بعد الرسل . . . ( النساء : 165 ) .
ومن هؤلاء الرسل خمسة كانوا أكثر معاناة مع أقوامهم ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم .
وقد كان جهادهم مع أقوامهم أية في تحمل البلاء ، والصبر على الإيذاء والعناد .
قال تعالى : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل . . . ( الأحقاف : 35 ) .
لقد صبر نوح دهرا طويلا على قومه ، وألقي إبراهيم في النار ، وأوذي موسى أبلغ الأذى فصبر ، وحاول اليهود الإيقاع بالمسيح ، والإغراء بقتله فرفعه الله إليه ، وكان خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم يتحمّل صنوف الأذى وألوان الاضطهاد بمكة ، ويتحمل نفاق المنافقين وكيد اليهود بالمدينة .
ولكن العاقبة كانت للمتقين ، لقد أدّى الرسل واجبهم ، وبلّغوا رسالتهم ، ونجاهم الله مع المؤمنين ، ثم عاقب الجاحدين .
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون . ( الصافات : 171 -173 ) .
1- 4- أرسل الله نوحا عليه السلام ليدعو قومه إلى عبادة الله وطاعته ، وقد بلّغ نوح دعوة ربه إلى قومه ، ولخّص دعوته في ثلاث كلمات : اعبدوا الله وحده ، واتقوه وآمنوا به عن يقين ، وأطيعوا رسولكم فيما يأمركم به وينهاكم عنه .
وبهذا الإيمان تستحقون مغفرة الله لكم ، والبركة في أعماركم ، ولا شك أن للطاعات مدخلا في راحة البال ، واستقرار العيش ، وهدوء النفس ، وهذا بلا ريب يطيل العمر ويجعله مباركا حافلا بالأعمال النافعة .
5-9- تعبّر الآيات عن جهود نبي كريم في دعوة قومه إلى الإيمان ، فهو يؤدي رسالته ، وينهض بدعوة قومه ، ويناجي ربه قائلا :
لقد دعوت قومي إلى عبادتك والإيمان بك في الليل والنهار ، وانتهزت كل فرصة مناسبة لدعوتهم وإرشادهم ، ولكنهم لم يستجيبوا لدعوة الله ، وقابلوها بالجحود والعناد ، وأغلقوا في وجه الدعوة قلوبهم ، وسدّوا منافذ العلم إلى نفوسهم ، فجعلوا أصابعهم في آذانهم ليمنعوها من السمع ، وغطّوا عيونهم بثيابهم ليمنعوها من الإبصار ، واستمروا في عنادهم وكفرهم .
وقد لوّن نوح في أساليب الدعوة ، فدعاهم علنا في أماكن التجمع فلم يستجيبوا ، فدعا كل فرد على حدة وحاول استمالة الأشخاص وإقناعهم فلم يلق قبولا .
10-12- وقد دعاهم إلى التوبة والإنابة وطلب المغفرة من الله ، فإذا صدقوا في توبتهم غمرهم الله بالنعم ، وأنزل عليهم المطر ، ورزقهم الأموال والذرية ، والبساتين النضرة والمياه الجارية .
13- 20- لم لا تعظمون الله وهو خالق الأولين والآخرين في أطوار وجودهم ؟ وجميع ما في الكون يدل على الله ، فالسماوات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض ، والشمس والقمر ، وخلق الإنسان ونموه كما ينمو النبات ، ثم دعوته إلى الأرض بعد الموت ، والأرض الممهدة المهيأة للانتفاع بما في باطنها من كنوز ومعادن ، وما في ظاهرها من زراعة وصناعة وتجارة ، كل هذه المخلوقات تدل على الإله الخالق .
21- 25- في هذا المقطع نسمع آلام نبي كريم ، قدّم لقومه سائر الحجج والبراهين ، ولكن قومه قابلوا دعوته بالتكذيب والعصيان ، واتّبعوا الخاسرين الهالكين ، والزعماء المضللين ، وبيّتوا أمرهم بالكيد لنوح ودعوته ، وتواصوا بالبقاء على كفرهم ومألوفهم وعبادة أصنامهم ، وخصّوا بالذكر الأصنام الخمسة الكبار وهي : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وهي أصنام كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب .
وهنا ضاق نوح بقومه وضلالهم البعيد ، فدعا الله أن يزيدهم ضلالا جزاء عنادهم ، لقد ارتكبوا كثيرا من الأخطاء ولذلك أغرقهم الله بالطوفان ، ثم أدخلوا في عذاب القبر وعذاب النار ، ولم يجدوا أحدا ينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، وهكذا جزاء كل كافر معاند ، أن يحل به بطش الله القوي الغالب .
ألم تر كيف فعل ربك بعاد* إرم ذات العماد* التي لم يخلق مثلها في البلاد* وثمود الذين جابوا الصّخر بالواد* وفرعون ذي الأوتاد* الذين طغوا في البلاد* فأكثروا فيها الفساد* فصبّ عليهم ربك سوط عذاب* إن ربك لبالمرصاد . ( الفجر : 6-14 ) .
26 ، 27- وفي آخر السورة زفرات نبي مكلوم ، مكث ألف سنة ثم قوبل بالجحود ، فقال : يا رب أهلك جميع الكافرين ، ولا تترك منهم أحدا ، وليس ذلك حبّا في الانتقام ، ولكن رغبة في نظافة الأرض منهم ، لأن بقاءهم كفارا يخشى منه أن يفتنوا المؤمنين ويضلّوهم بالرغبة أو الرهبة ، ولا يخرج من أصلاب هؤلاء الكافرين إلا فاجر كافر ، فالإناء ينضح بما فيه .
28- وفي آخر آية تبتل نبي كريم بدعاء ندي رضي ، يطلب فيه مغفرة الله له ولوالديه ، ولمن دخل في دعوته وآمن به ، ولسائر المؤمنين والمؤمنات ، أما الظالمون فلا يستحقون الهداية التي أعرضوا عنها ، بل يستحقون أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم ، فمن أعرض عن الله سلب الله عنه الهدى والتوفيق ، وتركه يتخبط في دياجير الظلام : نسوا الله فنسيهم . . . ( التوبة : 67 ) .
الهدف الرئيسي للسورة بيان دعوة نوح ، وحرصه على إيمان قومه ، وقد حوت هذه الدعوة ما يأتي :
( أ ) طلب تركهم للذنوب ، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم المال والبنين .
( ب ) النظر في خلق السماوات والأرض والأنهار والبحار .
( ج ) النظر في خلق الإنسان ، وأنه يخلق في الأرض كما يخلق النبات ، وأن الأرض مسخّرة له يتصرف فيها كما يشاء .
وبينت السورة كفر قوم نوح وعنادهم ، وعقابهم في الدنيا والآخرة .
إرسال نوح عليه السلام إلى قومه
{ إنّا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم 1 قال يا قوم إني لكم نذير مبين 2 أن اعبدوا الله واتّقوه وأطيعون 3 يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخّركم إلى أجل مسمّى إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر لو كنتم تعلمون 4 }
إلى قومه : هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم .
أن أنذر : بأن أنذر ، أو بإنذار .
عذاب أليم : مؤلم في الدنيا بالطوفان ، ومؤلم في الآخرة بنار جهنم .
1- إنّا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم .
كان آدم عليه السلام الأب الأوّل للبشرية ، ولعل رسالته اقتصرت على أبنائه وأحفاده ، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون ، انحرفت فيها البشرية ، وعبدت أوثانا من دون الله تعالى ، فأرسل الله نوحا إلى قومه .
وهو أوّل رسول أرسل إلى قومه ، وأطول الرّسل عمرا ، وربما كان أطول البشر عمرا ، لقد جاءت إليه الرسالة وعمره أربعون عاما ، ثم مكث في قومه رسولا ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم جاء الطوفان فأغرق الكافرين ، ونجّى الله المؤمنين ، ثم مكث نوح قومه ستّين عاما بعد الطوفان .
لقد طالت رسالة نوح ، وطال تكذيب قومه له ، مع تذرّع نوح بالصبر والحلم ، والجدال الواضح المبين ، حتى تحدّاه قومه قائلين : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين . ( هود : 32 ) .
خلق الله الإنسان من تراب ، ثم نفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة ، ومنحه العقل والحرية والاختيار ، وجعله أهلا للطاعة وأهلا للمعصية ، ثم أرسل الله له الرسل ، وأنزل له الكتب ، لإرشاده إلى الحق والخير والإيمان ، وتحذيره من الكفر والطغيان ، وقد جاهد الرّسل جهادا مستمرّا من عهد نوح الأب الثاني للبشرية إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين ، جاهد الرّسل وتحمّلوا التكذيب والتعذيب والقتل من أجل الدعوة إلى الإيمان ، وبيان حجة الله تعالى على عباده ، وحتى يكون للجنة أهلها عن عدالة وبيّنة ، وللنار أهلها عن عدالة وبيّنة .
قال تعالى : رسلا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ( النساء : 165 ) .
أرسل الله الرّسل دعاة إلى الإيمان ، وهداة للبشرية ، ومعلّمين للحق والخير ، ولا يتقاضون أجرا على تبليغ الرسالة ، وإنما ينفّذون تعاليم السماء ، ويبلّغون الوحي ، وينصحون الناس ، ويذكّرون الخلق بقدرة الخالق وفضله ، ونعمائه وعدالته ، ويبيّنون للناس أن هناك بعثا ونشرا وحسابا وجزاء وجنة ونارا ، فمن أطاع فله الجنة ، ومن عصى الله وكذّب رسله فله النار .
وسورة نوح تحمل قصته ، ودعوته ، وأدلته على هذا الإيمان ، وجهاده الطويل ليلا ونهارا ، وسرّا وجهارا ، ثم تكذيب قومه له ، وغرق الكافرين منهم ، ونجاة المؤمنين ، وظلّ هذا ديدن البشرية وعقوبة تكذيبها ، مثل قوم عاد ، وقوم ثمود ، وفرعون ومثله ، وغيرهم .
قال تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . ( الإسراء : 17 ) .
لقد استمرت رسالة الرسل في تاريخ البشرية الطويل ، وهي من رحمات الله وأفضاله ، أن يرسل الرسل ، وأن ينزل الكتب ، وأن يدعو الناس إلى الإيمان ، وأن يحذّرهم من الكفر والعصيان ، وأن يمهل العصاة لعلهم أن يتوبوا ، فإذا تابوا قبل توبتهم .
قال تعالى : إن الله التوابين ويحب المتطهرين . ( البقرة : 222 ) .
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم .
الله تعالى هو الذي يتحدث عن فضله بعباده ، فيقول : إنا أرسلنا نوحا رسولا من عند الله إلى قومه في جزيرة العرب وما حولها ، ليقول لقومه : إنّي أحذّركم من عبادة الأوثان ، موضّح لكم أن العبادة لا تكون إلا لله الواحد الأحد ، الخالق الرزّاق ، المتّصف بكل كمال ، المنزّه عن كل نقص .
{ إنا أرسلنا نوحا } هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنون ، وهو إدريس عليه السلام . { إلى قومه } قيل : هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم . والمشهور : أنه كان يسكن أرض الكوفة ، وهناك أرسل . { أن أنذر قومك } بأن أنذرهم وحذرهم عاقبة كفرهم ؛ من الإنذار ، وهو إخبار فيه تخويف . يقال : أنذره ينذره إنذارا ؛ فهو منذر ونذير ، وهم منذرون .
قوله تعالى : " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه " قد مضى القول في " الأعراف{[15377]} " أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل . ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض ) . فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا . وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام . قال وهب : كلهم مؤمنون . أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة . وقال ابن عباس : ابن أربعين سنة . وقال عبدالله بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة . وقد مضى في سورة " العنكبوت{[15378]} " القول فيه . والحمد لله . " أن أنذر قومك " أي بأن أنذر قومك ، فموضع " أن " نصب بإسقاط الخافض . وقيل : موضعها جر لقوة خدمتها مع " أن " . ويجوز " أن " بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب ؛ لأن في الإرسال معنى الأمر ، فلا حاجة إلى إضمار الباء . وقراءة عبدالله " أنذر قومك " بغير " أن " بمعنى قلنا له أنذر قومك . وقد تقدم معنى الإنذار في أول " البقرة{[15379]} " . " من قبل أن يأتيهم عذاب أليم " النار في الآخرة . وقال الكلبي : هو ما نزل عليهم من الطوفان . وقيل : أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا . فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيبا ، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) . وقد مضى هذا مستوفى في سورة " العنكبوت{[15380]} " والحمد لله .
سورة نوح عليه السلام{[1]}
مقصودها الدلالة على {[2]}تمام القدرة{[3]} على ما أنذر به آخر " سأل " من إهلاك المنذرين وتبديل خير منهم ، {[4]}و من{[5]} القدرة على إيجاد يوم القيامة الذي طال إنذارهم به وهم عنه معرضون وبه مكذبون {[6]}وبه لاهون{[7]} ، وتسميتها بنوح عليه السلام أدل ما فيها على ذلك ، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب {[8]} تكذيبهم له{[9]} في ذلك مشهور ومقصوص في غير ما موضع ومذكور ، وتقرير أمر البعث في قصته في هذه [ السورة-{[10]} ] مقرر ومسطور ( بسم الله ) الذي له الكمال كله من الجلال والإكرام ( الرحمن ) الذي عم بما أفاضه من ظاهر الإنعام ( الرحيم ) الذي خص أولياءه بلزوم الطاعة [ في الابتداء-{[11]} ] وإتمام النعمة في الختام .
ولما ختمت " سأل " بالإنذار للكفار ، وكانوا عباد أوثان ، بعذاب الدنيا والآخرة ، أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا في تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام ، وكان قومه عباد أوثان ، وكانوا يستهزئون به وكانوا أشد تمرداً من قريش وأجلف وأقوى وأكثر ، فلم ينفعهم شيء من ذلك عند نزول البلاء وبروك النقمة عليهم وإتيان العذاب إليهم ، وابتدأها بالإنذار تخويفاً من عواقب التكذيب به ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم أن يكون الرسول بشراً أو لتنزيلهم منزلة المنكرين{[68573]} من حيث أقروا برسالته وطعنوا في رسالة غيره مع المساواة في البشرية : { إنا } أي بما لنا من العظمة الباهرة{[68574]} البالغة { أرسلنا نوحاً } وهو أول رسول أتى بعد اختلاف أولاد آدم عليه السلام في دين أبيهم الأقوم { إلى قومه } أي الذين كانوا في غاية القوة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه {[68575]}إلى ما دعاهم إليه{[68576]} ويكرموه لما بينهم من القرب {[68577]}بالنسب واللسان{[68578]} ، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين .
ولما بان بما مضى المرسِل والرسول والمرسَل إليهم ، وكان الإرسال متضمناً معنى القول ، أخذ في تفسيره بياناً للمرسل به فقال : { أن أنذر } أي حذر تحذيراً بليغاً عظيماً { قومك } من الاستمرار على الكفر .
ولما كان المقصود " {[68579]}إعلامهم بذلك{[68580]} " في بعض الأوقات لأن الإنسان لا بد له من أوقات شغل بنفسه من نوم وأكل وغيره ، أتى بالجار تخفيفاً عليه ورفقاً به عليه السلام فقال : { من{[68581]} قبل أن يأتيهم } أي على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة { عذاب أليم * } .
و{[68582]}قال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر {[68583]}على قومه{[68584]} {[68585]}في قوله{[68586]} :{ فاصبر صبراً جميلاً }[ المعارج : 5 ] وجليل الإغضاء في قوله :{ فذرهم يخوضوا ويلعبوا }[ المعارج : 42 ] أتبع ذلك بقصة نوح عليه السلام وتكرر دعائه{[68587]} قومه إلى الإيمان ، وخص من خبره حاله في طول مدة التذكار والدعاء لأنه المقصود في الموضع تسلية لنبيه{[68588]} صلى الله عليه وسلم ، وليتأسى به في الصبر والرفق والدعاء كما قيل له صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع
{ فاصبر{[68589]} كما صبر أولو العزم{[68590]} من الرسل ولا تستعجل لهم }[ الأحقاف : 35 ] { فلا تذهب نفسك عليهم{[68591]} حسرات }[ فاطر : 8 ] فقد دام دعاء نوح عليه السلام مع قومه أدوم من مدتك ، ومع ذلك فلم يزدهم إلا فراراً{ قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً{[68592]} وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً }[ نوح : 5- 7 ] ثم مضت آي السورة على هذا المنهج من تجديد الإخبار بطول مكابدته عليه السلام وتكرير{[68593]} دعائه ، فلم يزدهم ذلك إلا بعداً وتصميماً على كفرهم حتى أخذهم الله ، وأجاب فيهم دعاء نبيه نوح{[68594]} عليه السلام رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً }[ نوح : 26 ] وذلك ليأسه{[68595]} من فلاحهم ، وانجر في هذا حض نبينا صلى الله عليه وسلم على الصبر على قومه والتحمل منهم{[68596]} كما صرح به في قوله تعالى :{ خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين }[ الأعراف : 199 ] وكما قيل له قبل{[68597]}{ فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت }[ القلم : 48 ] { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك }[ هود : 120 ] انتهى{[68598]} .