( سورة نوح مكية ، وآياتها 28 آية ، نزلت بعد سورة النحل )
السورة قصة نبي كريم من أولي العزم من الرسل ، أرسله الله إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان فقاموا دعوته وأنكروا رسالته ، فلفت نوح نظرهم إلى التأمل في خلق السماء والشمس والقمر ، والأرض والنبات وسائر المخلوقات ، ولكنهم صمّوا آذانهم عن سماع الحق ، وحجبوا عيونهم عن النظر في الأدلة الواضحة والحجة الدامغة ، فاستحقوا عقاب الله وأغرقوا بالطوفان في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب شديد .
السورة نموذج حتى لمعاناة الرسل مع أقوامهم ، وجهادهم في سبيل الدعوة ، لقد مكث نوح مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما آمن معه إلا قليل ، ولقد كان عناد قومه سببا في هلاكهم ، وكأن الله أراد أن يحذر أهل مكة من العناد ، وأن يذكرهم بمن أهلك من الكافرين .
قال تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . ( الإسراء : 17 ) .
يعني لقد أهلك الله قوم نوح ، وأهلك من بعده عددا كبيرا كعاد وثمود وفرعون ، وكان هلاكهم جزاء عادلا وعقابا مناسبا لقوم يعلم الله إصرارهم على الكفر وبعدهم عن قبول الحق .
لقد صبر الرسل وصابروا من أجل إبلاغ الدعوة إلى أقوامهم ، وحملوا كلمة الله ناصعة نقية واضحة سليمة ، وعرضوها أمام العيون والقلوب لتبصر وترى آثار قدرة الله وعظيم خلقه ، وليكون إيمانهم عن بينة ويقين ، ولئلا يحتجّ إنسان يوم القيامة بأن الرسالة لم تبلغه .
قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين للناس على الله حجّة بعد الرسل . . . ( النساء : 165 ) .
ومن هؤلاء الرسل خمسة كانوا أكثر معاناة مع أقوامهم ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم .
وقد كان جهادهم مع أقوامهم أية في تحمل البلاء ، والصبر على الإيذاء والعناد .
قال تعالى : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل . . . ( الأحقاف : 35 ) .
لقد صبر نوح دهرا طويلا على قومه ، وألقي إبراهيم في النار ، وأوذي موسى أبلغ الأذى فصبر ، وحاول اليهود الإيقاع بالمسيح ، والإغراء بقتله فرفعه الله إليه ، وكان خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم يتحمّل صنوف الأذى وألوان الاضطهاد بمكة ، ويتحمل نفاق المنافقين وكيد اليهود بالمدينة .
ولكن العاقبة كانت للمتقين ، لقد أدّى الرسل واجبهم ، وبلّغوا رسالتهم ، ونجاهم الله مع المؤمنين ، ثم عاقب الجاحدين .
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون . ( الصافات : 171 -173 ) .
1- 4- أرسل الله نوحا عليه السلام ليدعو قومه إلى عبادة الله وطاعته ، وقد بلّغ نوح دعوة ربه إلى قومه ، ولخّص دعوته في ثلاث كلمات : اعبدوا الله وحده ، واتقوه وآمنوا به عن يقين ، وأطيعوا رسولكم فيما يأمركم به وينهاكم عنه .
وبهذا الإيمان تستحقون مغفرة الله لكم ، والبركة في أعماركم ، ولا شك أن للطاعات مدخلا في راحة البال ، واستقرار العيش ، وهدوء النفس ، وهذا بلا ريب يطيل العمر ويجعله مباركا حافلا بالأعمال النافعة .
5-9- تعبّر الآيات عن جهود نبي كريم في دعوة قومه إلى الإيمان ، فهو يؤدي رسالته ، وينهض بدعوة قومه ، ويناجي ربه قائلا :
لقد دعوت قومي إلى عبادتك والإيمان بك في الليل والنهار ، وانتهزت كل فرصة مناسبة لدعوتهم وإرشادهم ، ولكنهم لم يستجيبوا لدعوة الله ، وقابلوها بالجحود والعناد ، وأغلقوا في وجه الدعوة قلوبهم ، وسدّوا منافذ العلم إلى نفوسهم ، فجعلوا أصابعهم في آذانهم ليمنعوها من السمع ، وغطّوا عيونهم بثيابهم ليمنعوها من الإبصار ، واستمروا في عنادهم وكفرهم .
وقد لوّن نوح في أساليب الدعوة ، فدعاهم علنا في أماكن التجمع فلم يستجيبوا ، فدعا كل فرد على حدة وحاول استمالة الأشخاص وإقناعهم فلم يلق قبولا .
10-12- وقد دعاهم إلى التوبة والإنابة وطلب المغفرة من الله ، فإذا صدقوا في توبتهم غمرهم الله بالنعم ، وأنزل عليهم المطر ، ورزقهم الأموال والذرية ، والبساتين النضرة والمياه الجارية .
13- 20- لم لا تعظمون الله وهو خالق الأولين والآخرين في أطوار وجودهم ؟ وجميع ما في الكون يدل على الله ، فالسماوات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض ، والشمس والقمر ، وخلق الإنسان ونموه كما ينمو النبات ، ثم دعوته إلى الأرض بعد الموت ، والأرض الممهدة المهيأة للانتفاع بما في باطنها من كنوز ومعادن ، وما في ظاهرها من زراعة وصناعة وتجارة ، كل هذه المخلوقات تدل على الإله الخالق .
21- 25- في هذا المقطع نسمع آلام نبي كريم ، قدّم لقومه سائر الحجج والبراهين ، ولكن قومه قابلوا دعوته بالتكذيب والعصيان ، واتّبعوا الخاسرين الهالكين ، والزعماء المضللين ، وبيّتوا أمرهم بالكيد لنوح ودعوته ، وتواصوا بالبقاء على كفرهم ومألوفهم وعبادة أصنامهم ، وخصّوا بالذكر الأصنام الخمسة الكبار وهي : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وهي أصنام كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب .
وهنا ضاق نوح بقومه وضلالهم البعيد ، فدعا الله أن يزيدهم ضلالا جزاء عنادهم ، لقد ارتكبوا كثيرا من الأخطاء ولذلك أغرقهم الله بالطوفان ، ثم أدخلوا في عذاب القبر وعذاب النار ، ولم يجدوا أحدا ينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، وهكذا جزاء كل كافر معاند ، أن يحل به بطش الله القوي الغالب .
ألم تر كيف فعل ربك بعاد* إرم ذات العماد* التي لم يخلق مثلها في البلاد* وثمود الذين جابوا الصّخر بالواد* وفرعون ذي الأوتاد* الذين طغوا في البلاد* فأكثروا فيها الفساد* فصبّ عليهم ربك سوط عذاب* إن ربك لبالمرصاد . ( الفجر : 6-14 ) .
26 ، 27- وفي آخر السورة زفرات نبي مكلوم ، مكث ألف سنة ثم قوبل بالجحود ، فقال : يا رب أهلك جميع الكافرين ، ولا تترك منهم أحدا ، وليس ذلك حبّا في الانتقام ، ولكن رغبة في نظافة الأرض منهم ، لأن بقاءهم كفارا يخشى منه أن يفتنوا المؤمنين ويضلّوهم بالرغبة أو الرهبة ، ولا يخرج من أصلاب هؤلاء الكافرين إلا فاجر كافر ، فالإناء ينضح بما فيه .
28- وفي آخر آية تبتل نبي كريم بدعاء ندي رضي ، يطلب فيه مغفرة الله له ولوالديه ، ولمن دخل في دعوته وآمن به ، ولسائر المؤمنين والمؤمنات ، أما الظالمون فلا يستحقون الهداية التي أعرضوا عنها ، بل يستحقون أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم ، فمن أعرض عن الله سلب الله عنه الهدى والتوفيق ، وتركه يتخبط في دياجير الظلام : نسوا الله فنسيهم . . . ( التوبة : 67 ) .
الهدف الرئيسي للسورة بيان دعوة نوح ، وحرصه على إيمان قومه ، وقد حوت هذه الدعوة ما يأتي :
( أ ) طلب تركهم للذنوب ، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم المال والبنين .
( ب ) النظر في خلق السماوات والأرض والأنهار والبحار .
( ج ) النظر في خلق الإنسان ، وأنه يخلق في الأرض كما يخلق النبات ، وأن الأرض مسخّرة له يتصرف فيها كما يشاء .
وبينت السورة كفر قوم نوح وعنادهم ، وعقابهم في الدنيا والآخرة .
إرسال نوح عليه السلام إلى قومه
{ إنّا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم 1 قال يا قوم إني لكم نذير مبين 2 أن اعبدوا الله واتّقوه وأطيعون 3 يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخّركم إلى أجل مسمّى إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر لو كنتم تعلمون 4 }
إلى قومه : هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم .
أن أنذر : بأن أنذر ، أو بإنذار .
عذاب أليم : مؤلم في الدنيا بالطوفان ، ومؤلم في الآخرة بنار جهنم .
1- إنّا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم .
كان آدم عليه السلام الأب الأوّل للبشرية ، ولعل رسالته اقتصرت على أبنائه وأحفاده ، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون ، انحرفت فيها البشرية ، وعبدت أوثانا من دون الله تعالى ، فأرسل الله نوحا إلى قومه .
وهو أوّل رسول أرسل إلى قومه ، وأطول الرّسل عمرا ، وربما كان أطول البشر عمرا ، لقد جاءت إليه الرسالة وعمره أربعون عاما ، ثم مكث في قومه رسولا ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم جاء الطوفان فأغرق الكافرين ، ونجّى الله المؤمنين ، ثم مكث نوح قومه ستّين عاما بعد الطوفان .
لقد طالت رسالة نوح ، وطال تكذيب قومه له ، مع تذرّع نوح بالصبر والحلم ، والجدال الواضح المبين ، حتى تحدّاه قومه قائلين : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين . ( هود : 32 ) .
خلق الله الإنسان من تراب ، ثم نفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة ، ومنحه العقل والحرية والاختيار ، وجعله أهلا للطاعة وأهلا للمعصية ، ثم أرسل الله له الرسل ، وأنزل له الكتب ، لإرشاده إلى الحق والخير والإيمان ، وتحذيره من الكفر والطغيان ، وقد جاهد الرّسل جهادا مستمرّا من عهد نوح الأب الثاني للبشرية إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين ، جاهد الرّسل وتحمّلوا التكذيب والتعذيب والقتل من أجل الدعوة إلى الإيمان ، وبيان حجة الله تعالى على عباده ، وحتى يكون للجنة أهلها عن عدالة وبيّنة ، وللنار أهلها عن عدالة وبيّنة .
قال تعالى : رسلا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ( النساء : 165 ) .
أرسل الله الرّسل دعاة إلى الإيمان ، وهداة للبشرية ، ومعلّمين للحق والخير ، ولا يتقاضون أجرا على تبليغ الرسالة ، وإنما ينفّذون تعاليم السماء ، ويبلّغون الوحي ، وينصحون الناس ، ويذكّرون الخلق بقدرة الخالق وفضله ، ونعمائه وعدالته ، ويبيّنون للناس أن هناك بعثا ونشرا وحسابا وجزاء وجنة ونارا ، فمن أطاع فله الجنة ، ومن عصى الله وكذّب رسله فله النار .
وسورة نوح تحمل قصته ، ودعوته ، وأدلته على هذا الإيمان ، وجهاده الطويل ليلا ونهارا ، وسرّا وجهارا ، ثم تكذيب قومه له ، وغرق الكافرين منهم ، ونجاة المؤمنين ، وظلّ هذا ديدن البشرية وعقوبة تكذيبها ، مثل قوم عاد ، وقوم ثمود ، وفرعون ومثله ، وغيرهم .
قال تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . ( الإسراء : 17 ) .
لقد استمرت رسالة الرسل في تاريخ البشرية الطويل ، وهي من رحمات الله وأفضاله ، أن يرسل الرسل ، وأن ينزل الكتب ، وأن يدعو الناس إلى الإيمان ، وأن يحذّرهم من الكفر والعصيان ، وأن يمهل العصاة لعلهم أن يتوبوا ، فإذا تابوا قبل توبتهم .
قال تعالى : إن الله التوابين ويحب المتطهرين . ( البقرة : 222 ) .
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم .
الله تعالى هو الذي يتحدث عن فضله بعباده ، فيقول : إنا أرسلنا نوحا رسولا من عند الله إلى قومه في جزيرة العرب وما حولها ، ليقول لقومه : إنّي أحذّركم من عبادة الأوثان ، موضّح لكم أن العبادة لا تكون إلا لله الواحد الأحد ، الخالق الرزّاق ، المتّصف بكل كمال ، المنزّه عن كل نقص .