في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم . وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .

وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه : " على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . . فلما كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء ، فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، يفتن في دينهن وهن ضعاف .

ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور . على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .

وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة ، فلا يكون تخلصا من زواج مكروه ، ولا طلبا لمنفعة ، ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام !

قال ابن عباس : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .

وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك .

وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله ، ولا سبيل للبشر إليها : ( الله أعلم بإيمانهن . . )فإذا ما أقررن هكذا ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) . .

( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) . .

فقد أنبتت الوشيجة الأولى . . وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .

وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد . فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .

ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .

وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعن حملهن ? وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة ?

( وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) .

ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه :

( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ) . .

وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

امتحان المهاجرات

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 10 ) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 11 ) }

10

المفردات :

فامتحنوهن : فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم ، موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان .

علمتموهنّ : ظننتموهنّ .

إلى الكفار : إلى أزواجهن الكفار .

أجورهن : مهورهنّ .

عصم : واحدها عصمة ، وهي ما يُعتصم به من عقد وسبب .

الكوافر : واحدتهنّ كافرة .

التفسير :

10- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

قال المفسرون :

إن صلح الحديبية كان قد تضمّن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لا يردّ إليهم ، ومن أتى المسلمين من أهل مكة – يعني المشركين – رُدّ إليهم ، فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج في إثرها أخواها عُمارة والوليد فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم : ردّها علينا بالشرط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كان الشرط في الرجال لا في النساء " ، فأنزل الله الآيةxiii

وأخرج الشيخان ، وأحمد ، عن ابن عباس : كانت المرأة تُستحلف أنّها هاجرت ما هاجرت بُغضا لزوجها ، ولا طمعا في الدنيا ، وأنها ما خرجت إلا حبّا لله ورسوله ، ورغبة في دين الإسلام .

ضوء على الآية

في بداية الإسلام كان يحل للمسلم زواج الكافرة وإبقاء عقد زواجها ، وكل يحل للمرأة المسلمة زواج المشرك .

قال ابن كثير :

ولهذا كان حال أبي العاص بن الربيع ، زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ، زينب رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة ، وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر ، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها ، كانت لأمّها خديجة ، فلما رآها الرسول صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة ، وقال للمسلمين : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا " . ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن يبعث ابنته إليه ، فوفّى له بذلك ، وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر ، وكانت سنة اثنتين ، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان ، فردّها عليه بالنكاح الأوّل ، ولم يحدث لها صداقا . 1ه .

معنى الآية

يا أيها الذين آمنوا ، إذا جاءت إليكم نسوة مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإيمان ، لائذات بجماعة المسلمين ، فامتحنوهنّ واختبروهن للتأكد من صدقهنّ ، فتُقسم المهاجرة أنّها ما هاجرت من بغض زوج ، ولا ابتغاء دينا ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، وأنها ما هاجرت إلا حبّا لله ورسوله ، ورغبة في دين الإسلام .

وهذا الاختبار ، مع استكشاف ما يحيط به ، يجعلنا نرجّح النتيجة منه ، ونحكم بما يغلب على ظننا لأن الله تعالى وحده هو العليم بإيمان المؤمنين .

فإذا تيقنّا من صدق إيمانهنّ ، فلا يجوز أن نُرجع المرأة المهاجرة إلى دار الكفر ، خشية الفتنة عليها ، ولأنها لا تحلّ لزوجها الكافر ، ولا تحل لزوجه الكافر معاشرتها ، ، حيث إنها مؤمنة وهو كافر ، فلا يجوز أن يعلو الرجل الكافر فوق المرأة المؤمنة ، وكان هذا أول قرار في تحريم زواج المؤمنة من كافر .

قال الآلوسي :

والتكرير للتأكيد والمبالغة في الحرمة ، وقطع العلاقة بين المؤمنة والمشرك ، حيث قال تعالى : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ } . فأفاد حرمة عودة المؤمنة إلى الكافر ، ثم كرر وأكّد فقال : { وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } . أي : ولا الأزواج الكفار يحلّون للمؤمنات طالما بقوا على كفرهم .

ومن عدالة القرآن هنا أنه أمر بإعطاء الزوج الكافر ما أنفقه على زوجته من صداق وغيره ، فلا يجمع عليه خسران الزوجة وخسران المال ، ثم أباح للمسلمين زواج المهاجرات بشرط أن يدفعوا لهن الصداق .

قال الخازن :

أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وإن كان لهن أزواج كفار ، لأن الإسلام فرّق بينهنّ وبين أزواجهن الكفار ، وتقع الفرقة بانقضاء عدّتها . 1ه .

{ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ . . . }

فمن كانت له زوجة كافرة في مكة ، أو دار الكفر ، فقد انقطعت العلاقة الزوجية بإسلامه وكفرها ، فلا تعتبر زوجة له .

قال القرطبي :

المراد بالعصمة هنا : النكاح ، يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فليست امرأته ، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدّارين .

قال إبراهيم النخعي :

نزل قوله تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ . . . } في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين ، فلا يمسك زوجها بعصمتها .

{ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا . . . }

إذا ذهبت امرأة مسلمة إلى الكفار مرتدة ، فمن حق زوجها أن يطلب من الكفّار الصداق ، وهو المهر الذي دفعه لها ، ويقول لأهلها : هاتوا مهرها .

وكذلك من حق من جاءت زوجته مسلمة مهاجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أن يقول للمسلمين : هاتوا مهر زوجتي ، وكان هذا إنصافا وعدلا بين الحالتين .

{ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ . . . }

هذه الأحكام هي من تشريع الله الحكم العدل ، الذي يقضي بالحق بينكم وبين أعدائكم ، وتأتي هذه الفقرة بمثابة التأكيد والترسيخ لما سبق من أحكام وتشريع ، خاصة أن الآية تشرّع لأول مرة تحريم زواج الكافر من المؤمنة ، وتحريم زواج المؤمن من المشركة ، والمعروف أن القرآن كله تشريع الله وحكمه ، لكنه كان يعقّب على بعض الأحكام بما يؤكد وجوب تنفيذها ، وفي صدر سورة النساء تحدثت آيات عن توزيع الميراث ، ثم عقّبت بقوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13 ) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . ( النساء : 13-14 ) .

وفي آخر الآية يقول الله سبحانه وتعالى :

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

فهو سبحانه وتعالى عليم بمصالح عباده ، حكيم في تشريعاته ، وقد التزم المؤمنون بهذه الأحكام ، فدفعوا ما أُمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ ، وأبى المشركون أن يردّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

امتحنوهن : اختبروهن .

علِمتموهن مؤمنات : تيقنتم من إيمانهنّ .

فلا تَرجعُوهن إلى الكفار : لا ترجعوهن إلى أزواجهن الكفار .

وآتوهم ما أنفقوا : أعطوا الأزواج الكفار ما دفعوا من مهور لزوجاتهم .

ولا جناح عليكم : لا إثم عليكم .

ولا تمسكوا بعصَم الكوافر : لا تبقوا النساء الكافرات على عصمتكم وأبطلوا عقد الزواج بهن .

واسألوا ما أنفقتم : اطلبوا كل ما دفعتم لهن من مهر وغيره .

ولْيسألوا ما أنفقوا : وليطلبوا هم ( يعني الكفار ) ما أنفقوا على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن إليكم .

في اتفاق صلح الحديبية جاء نص يقول : إن من جاء محمدا من قريش بغير إذنِ وليّه ردّه إليه ، ومن جاء قريشا من المسلمين لم تردّه إليهم . . ومضى العهد بين الطرفين على أتمّه .

ثم جاءت نساء مؤمنات مهاجرات ، وكانت أُولاهن أُم كلثوم بنتَ عقبة بن أبي معيط الأموية . فقدِم أخواها عمار والوليد ، فكَلّما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرِها ليردها إلى قريش ، فنزلت هذه الآية . فلم يردّها الرسول الكريم وزوّجها زيدَ بن حارثة ، ثم تزوجها الزبير بن العوام بعد استشهاد زيد ، فولدت له زينب ، ثم فارقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميدا ، ثم توفي عنها فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهرا وتوفيت رحم الله الجميع .

فتبين من عمل النبي عليه الصلاة والسلام أن العهدَ كان يشمل الرجال دون النساء ، والله تعالى يقول :

{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فإذا تبين لكم أنهنّ صادقات في إيمانهن فلا يجوز أن تردوهن إلى الكفار ، لأنهن : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .

{ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .

أعطوا الأزواج الكافرين ما أنفقوا من مهرٍ وغيره على زوجاتهم المهاجرات إليكم ، ولا حرج عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إذا دفعتم إليهن مهورهن .

{ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .

إذا بقيت زوجةٌ من الزوجات في دار الكفر ولم تسلم فلا تتمسكوا بعقد زواجها وأبطِلوه . كذلك إذا لحقت زوجة بدار الكفر فأبطِلوا عقدها ، فإنها تعتبر طالقة .

{ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } إذا كان لكم مهر عند زوجة في دار الكفر فلكم أن تطلبوه ، وإذا جاءت زوجة أحد الكفار وأسلمت وهاجرت فعلى من تزوَّجها أن يدفع ما عليها لزوجها السابق .

{ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } هذا التشريع هو حكم الله ، يحكم به بينكم ، فاتبعوه ولا تخالفوه ، والله عليم بمصالح عباده ، حكيم في كل ما يفعل .

قراءات :

قرأ أبو عمرو وأهل البصرة : ولا تمسكوا بفتح التاء وبتشديد السين المفتوحة . والباقون : ولا تمسكوا بضم التاء وإسكان الميم وكسر السين . وأمسك ومسَّك لغتان .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

شرح الكلمات :

{ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } : أي المؤمنات بألسنتهن مهاجرات من الكفار .

{ فامتحنوهن } : أي اختبروهن بالحلف أنهن ما خرجن إلا رغبة في الإِسلام لا بغضاً لأزواجهن ، ولا عشقا لرجال من المسلمين .

{ فإن علمتموهن مؤمنات } : أي صادقات في إيمانهن بحسب حلفهن .

{ فلا ترجعوهن إلى الكفار } : أي لا تردوهن إلى الكفار بمكة .

{ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } : لا المؤمنات يحللن لأزواجهن الكافرين ، ولا الكافرون يحلون لأزواجهم المؤمنات .

{ وآتوهم ما أنفقوا } : أي وأَعطوا الكفار أزواج المؤمنات المهاجرات المهور التي أعطوها لأزواجهم .

{ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } : أي مهورهن ، وإن لم يتم طلاق من أزواجهن لانفساخ العقد بالإِسلام . وبعد انقضاء العدة في المدخول بها وباقى شروط النكاح .

{ ولا تمسكوا بعصم الكوافر } : أي زوجاتكم ، لقطع إسلامكم للعصمة الزوجية ، وكذا من ارتدت ولحقت بدار الكفر ، إلا أن ترجع إلى الإِسلام قبل انقضاء عدتها فلا يفسخ نكاحها وتبقى العصمة إن كان مدخولا بها .

{ واسألوا ما أنفقتم } : أي أطلبوا ما أنفقتم عليهن من مهور في حال الارتداد .

{ وليسألوا ما أنفقوا } : أي على المهاجرات من مهور في حال إسلامهن .

المعنى :

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } الآيتين ( 10 ) و ( 11 ) نزلتا بعد صلح الحديبية إذ تضمنت وثيقة الصلح أن من جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة من الرجال رده إلى مكة ولو كان مسلماً ، ومن جاء المشركين من المدينة لم يردوه إليه ولم ينص عن النساء ، وأثناء ذلك جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة من مكة إلى المدينة فلحق بها أخواها عمار والوليد ليردّاهما إلى قريش فنزلت هذه الآية الكريمة فلم يردها عليهما صلى الله عليه وسلم قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا } أي يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً وبمحمد نبيّاً ورسولاً والإِسلام ديناً إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإِسلام فامتحنوهن - الله أعلم بإِيمانهن- فإن علمتموهن أي غلب على ظنكم أنهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وصورة الامتحان أن يقال لها احلفي بالله أي قولي بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت إلا رغبة في الإِسلام لا بغضاً لزوجي ، ولا عشقا لرجل مسلم .

وقوله تعالى : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } لأن الإِسلام فصم تلك العصمة التي كانت بين الزوج وزوجته ، إذ حرم الله نكاح المشركات ، وإنكاح المشركين ، ولذا لم يأذن الله تعالى في ردهن إلى أزواجهن الكافرين .

وقوله تعالى { وآتوهم ما أنفقوا } إذا جاء زوجها المشرك يطلب بها أعطوه ما أنفق عليها من مهر والذي يعطيه هو جماعة المسلمين وإمامهم .

وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } أي تتزوجهن إذا آتيتموهن أجورهن أي مهورهن مع باقي شروط النكاح من ولي وشاهدين وانقضاء العدة في المدخول بها .

وقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أي إذا أسلم الرجل وبقيت امرأته مشركة انقطعت عصمة الزوجية وأصبحت لا تحل لزوجها الذي أسلم ، وكذا إذا ارتدت امرأة مسلمة ولحقت بدار الكفر فإن العصمة قد انقطعت ، ولا يحل الإِمساك بها وفائدة ذلك لو كان تحت الرجل نسوة له أن يزيد رابعة لأن التي ارتدت أو التي كانت مشركة وأسلم وهي في عصمته لا تمنعه من أن يتزوج رابعة لأن الإِسلام قطع العصمة لقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر والعصم جمع عصمة .

وقوله تعالى : { واسألوا ما أنفقتم } اطلبوا من المرتدة ما أنفقتم عليها من مهر يؤدى لكم وليسألوا هم ما أنفقوا وأعطوهم أيضا مهور نسائهم اللائي أسلمن وهاجرن إليكم وقوله تعالى : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم } بخلقه وحاجاتهم { حكيم } في قضائه وتدبيره فليسلم له الحكم وليرض به فإنه قائم على أساس المصلحة للجميع .

الهداية

من الهداية :

- وجوب امتحان المهاجرة فإن علم إسلامها لا يحل إرجاعها إلى زوجها الكافر لأنها لا تحل له ، وإعطاؤه ما أنفق عليها من مهر . ويجوز بعد ذلك نكاحها بمهر وولي وشاهدين إن كانت مدخولا بها فبعد انقضاء عدتها وإلا فلا حرج في الزواج بها فوراً .

- حرمة نكاح المشركة .

- لا يجو الإبقاء على عصمة الزوجة المشركة ، وللزوج المسلم الذي بقي زوجته على الكفر ، أو ارتدت بعد إسلامها أن يطالب بما أنفق عليها من مهر وللزوج الكافر الذي أسلمت زوجته وهاجرت ان يسأل كذلك ما أنفق عليها .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

{ 10-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .

لما كان صلح الحديبية ، صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ، على أن من جاء منهم إلى المسلمين مسلما ، أنه يرد إلى المشركين ، وكان هذا لفظا عاما ، [ مطلقا ] يدخل في عمومه النساء والرجال ، فأما الرجال فإن الله لم ينه رسوله عن ردهم ، إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميما للصلح الذي هو من أكبر المصالح ، وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة ، أمر الله المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات ، وشكوا في صدق إيمانهن ، أن يمتحنوهن ويختبروهن ، بما يظهر به صدقهن ، من أيمان مغلظة وغيرها ، فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية .

فإن كن بهذا الوصف ، تعين ردهن وفاء بالشرط ، من غير حصول مفسدة ، وإن امتحنوهن ، فوجدن صادقات ، أو علموا ذلك منهن من غير امتحان ، فلا يرجعوهن إلى الكفار ، { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فهذه مفسدة كبيرة في ردهن راعاها الشارع ، وراعى أيضا الوفاء بالشرط ، بأن يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضا عنهن ، ولا جناح حينئذ على المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك ، ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من المهر والنفقة ، وكما أن المسلمة لا تحل للكافر ، فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت على كفرها ، غير أهل الكتاب ، ولهذا قال تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها{[1058]}  فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى ، { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ } أيها المؤمنون ، حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار ، فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم ، استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم{[1059]}  إلى الكفار ، وفي هذا دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم ، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل ، برضاع أو غيره ، كان عليه ضمان المهر ، وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ } أي : ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبينه لكم يحكم به بينكم{[1060]} { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فيعلم تعالى ، ما يصلح لكم من الأحكام ، ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة{[1061]} .


[1058]:- كذا في ب، وفي أ: بعصمها.
[1059]:- في ب: زوجاتهم.
[1060]:- في ب: وبينه لكم حكم الله بينه لكم ووضحه.
[1061]:- في ب: فيشرعه بحسب حكمته ورحمته.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

فيه ست عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات } لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين أحكام مهاجرة النساء . قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية ، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها وكان كافرا - وهو صيفي بن الراهب . وقيل : مسافر المخزومي - فقال : يا محمد ، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك ! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقيل : جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها . وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ردها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( كان الشرط في الرجال لا في النساء ) فأنزل الله تعالى هذه الآية . وعن عروة قال : كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل ، يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك . وقيل : إن التي جاءت أميمة بنت بشر ، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر ، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبدالله ، قال زيد بن حبيب . كذا قال الماوردي : أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ . وقال المهدوي : وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف . وهي امرأة حسان بن الدحداح ، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف . وقال مقاتل : إنها سعيدة{[14903]} زوجة صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة . والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة .

الثانية- واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما ؟ فقالت طائفة منهم : قد كان شرط ردهن في عقد المهادنة لفظا صريحا فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه ، وبقَّاه في الرجال على ما كان . وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه{[14904]} في الأحكام ، ولكن لا يقره الله على خطأ . وقالت طائفة من أهل العلم : لم يشترط ردهن في العقد لفظا ، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال . فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه . وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم . الثاني : أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم . فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم .

الثالثة- قوله تعالى : { فامتحنوهن } قيل : إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهن . واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاث أقوال : الأول : قال ابن عباس : كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقا لرجل منا ، بل حبا لله ولرسوله . فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك ، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها ، فذلك قوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } . الثاني : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، قاله ابن عباس أيضا . الثالث : بما بينه في السورة بعد من قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } [ الممتحنة : 12 ] قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال الله : { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } [ الممتحنة : 12 ] رواه معمر عن الزهري عن عائشة . خرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح .

الرابعة- أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا ، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما ، فنسخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن . وقال بعض العلماء : كله منسوخ في الرجال والنساء ، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما ؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز . وهذا مذهب الكوفيين ، وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك . وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية ، وقال " أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى نارهما{[14905]} ) قالوا : فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بريء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ . قال الشافعي : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره ، لأنه يلي الأموال كلها . فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود .

الخامسة- قوله تعالى : { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه متولي السرائر . { فإن علمتموهن مؤمنات } أي بما يظهر من الإيمان . وقيل : إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } أي لم يحل الله مؤمنة لكافر ، ولا نكاح مؤمن لمشركة .

وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لا هجرتها . وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين . وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة . والصحيح الأول ؛ لأن الله تعالى قال : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } فبين أن العلة عدم الحل بالإسلام وليس باختلاف الدار والله أعلم . وقال أبو عمر : لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس ، وإنما المراعاة في ذلك الدينان ، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما ، لا بالدار . والله المستعان .

السادسة- قوله تعالى : { وآتوهم ما أنفقوا } أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد ؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام ، أمر برد المال إليه حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .

السابعة- ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا . فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع . وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا ؛ لأنه لا قيمة له . وللشافعي في هذه الآية قولان : أحدهما : أن هذا منسوخ ، قال الشافعي : وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الإمام في دار السلام أو في دار الحرب ، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض . وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان : أحدهما : يعطي العوض ، والقول ما قال الله عز وجل ، وفيه قول آخر : أنه لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العوض . فإن شرط{[14906]} الإمام رد النساء كان الشرط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه عوض ؛ لأن الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل .

الثامنة- أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمام ، ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف . وقال مقاتل : يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين ، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء . وقال قتادة : الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق . والأمر كما قاله{[14907]} .

التاسعة- قوله تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة . فإن أسلمت قبل الدخول{[14908]} ثبت النكاح في الحال ولها التزوج .

العاشرة- { إذا آتيتموهن أجورهن } أباح نكاحها بشرط المهر{[14909]} ؛ لأن الإسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر .

الحادية عشرة- قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك . وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } [ البقرة : 231 ] . وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو " ولا تمسكوا " مشددة من التمسك . يقال : مسك يمسك تمسكا ، بمعنى أمسك يمسك . وقرئ " ولا تمسكوا " بنصب التاء ، أي لا تتمسكوا . والعصم جمع العصمة ، وهو ما اعتصم به . والمراد بالعصمة هنا النكاح . يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها ، فليست له امرأة ، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ، وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك{[14910]} في هذه الآية . فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين : قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة . وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبدالله بن المغيرة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما . فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قُرَيْبَة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك ، فأبى معاوية من ذلك . وكانت عند طلحة بن عبيدالله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ، فحبسها وزوجها خالدا . وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب ابنته - وكانت كافرة - من أبي العاص بن الربيع ، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها .

ذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال : أسلمت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى ، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبدالعزى مشرك بمكة . الحديث . وفيه : أنه أسلم بعدها . وكذلك قال الشعبي . قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع ، فأسلمت ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى زوجها المدينة فأمنته ، فأسلم فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس : بالنكاح الأول ، ولم يحدث شيئا . قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين . وقال الحسن بن علي : بعد سنتين . قال أبو عمر : فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقول الله عز وجل : " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " [ البقرة : 228 ] يعني في عدتهن . وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عني به العدة . وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه : كان قبل أن تنزل الفرائض . وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة " التوبة " بقطع العهود بينهم وبين المشركين . والله اعلم .

الثانية عشرة- قوله تعالى : { بعصم الكوافر } المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها ، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب . وقيل : هي عامة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب . ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه . وعلى القول الأول إذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما ، وهذا قول بعض أهل العلم . ومنهم من قال : ينتظر بها تمام العدة ، فمن قال يفرق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تسلم - مالك بن أنس . وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم ، واحتجوا بقوله تعالى : " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " . وقال الزهري : ينتظر بها العدة . وهو قول الشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه بمر الظَّهْران{[14911]} ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضال . ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقرا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت . قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما . قال الشافعي : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار ، كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عز وجل : { ولا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ثم بينت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة . وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذميين : إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فرق بينهما . قالوا : ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الإسلام . وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار ، وليس بشيء . وقد تقدم .

الثالثة عشرة- هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها ، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافا في انقطاع العصمة بينهما ؛ إذ لا عدة عليها . كذا يقول مالك في المرأة ترتد زوجها مسلم : انقطعت العصمة بينهما . وحجته { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي . ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة .

الرابعة عشرة- فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضا اختلاف . ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة . وهو قول مجاهد . وكذا الوثني تسلم زوجته ، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها ، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما ، على حديث ابن شهاب ، ذكره مالك في الموطأ . قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر . قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها ، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها . ومن العلماء من قال : ينفسخ النكاح بينهما . قال يزيد بن علقمة : أسلم جدي ولم تسلم جدتي ففرق عمر بينهما رضي الله عنه ، وهو قول طاوس . وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا : لا سبيل عليها إلا بخطبة .

الخامسة عشرة- قوله تعالى : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها . ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة : ردوا إلى الكفار مهرها . وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين . وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة ، قاله ابن العربي .

السادسة عشرة- { ذلكم حكم الله } أي ما ذكر في هذه الآية هو حكم الله ، { يحكم بينكم والله عليم حكيم } . تقدم في غير موضع{[14912]} .


[14903]:في الأصل المطبوع: "سبيعة" وهو تحريف. راجع أسد الغابة جـ 5 ص 745.
[14904]:الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الأمر.
[14905]:الأصل في "تراءى" تتراءى. والترائي تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وإسناد الترائي إلى النارين مجاز. أي يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة. (عن نهاية ابن الأثير).
[14906]:ما بين المربعين هكذا ورد في جميع نسخ الأصل، وهو مضطرب. وقد نقل المؤلف رحمه الله هذه المسألة من كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ونصها فيه: وإن شرط الإمام رد النساء كان الشرط منتقضا. ومن قال هذا قال: إن شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الحديبية فيه أن يرد من جاء منهم، وكان النساء منهم كان شرطا صحيحا، فنسخه الله ورد العوض، فلما قضى الله عز وجل ثم رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه أن يعوض؛ لأن شرطه المنسوخ باطل ولا عوض للباطل".
[14907]:في ح، ز، س: "كما قاله رحمه الله".
[14908]:ما بين المربعين ساقط من ح، ز، هـ.
[14909]:في س: "بشرط الإسلام؛ لأن المهر والإسلام...".
[14910]:كلمة: "ذلك" ساقطة من ح، س.
[14911]:مر الظهران: قرية قرب مكة.
[14912]:راجع جـ 1 ص 287.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

ولما كان نزول هذه الآيات الماضية في الفتح الأعظم حين قصد النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثمان المسير بجنود الله إلى مكة المشرفة - {[64595]}شرفها الله تعالى{[64596]} - لدخولها عليهم بالسيف حين نقضوا بقتالهم لخزاعة الذي كانوا قد تحيزوا{[64597]} إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في عقده وعهده في صلح الحديبية الذي كان سنة ست على وضع الحرب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم و{[64598]}من دخل في عقده ، وكان من ذلك الصلح أن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومن دخل في صلحهم رده إليهم وإن كان مسلماً ، ومن جاءهم ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه بحيث قام من ذلك وقعد كثير من الصحابة رضي الله عنهم من أعظمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى سكنه الصديق رضي الله تعالى عنه بما وقر في صدره من الحكم ، ورد إليهم{[64599]} صلى الله عليه وسلم أبا بصير رضي الله عنه ، وكان رده إليهم للوفاء بالعهد بسبب التصديق لقوله صلى الله عليه وسلم " أما من جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً " وقصته في ذلك كله{[64600]} مشهورة ، وكانت " من " من{[64601]} صيغ العموم ، وكانت دلالة العام قطعية في الحكم على الأفراد ظنية - كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه - في الدلالة على الجزئي{[64602]} من تلك الأفراد بخصوصه حيث لا قرينة لأن تلك الصيغ ترد تارة{[64603]} على عمومها وتارة يراد بها بعض الأفراد فتكون من العام{[64604]} الذي أريد به الخصوص ، وتارة يقع فيها التخصيص ، فتكون من العام الذي أريد به الخصوص{[64605]} فطرقها الاحتمال فاحتاج ما دلت عليه من الظاهر{[64606]} إلى قرينة ، وكان دخول النساء تحت لفظ " من " في صلح الحديبية أما عرباً عن القرينة أو أن القرينة{[64607]} القتال الذي وقع الصلح عليه{[64608]} بسببه صارفة عنه ، وكذا قرينة التعبير عنهن ب " ما " دون " من " في كثير من الكتاب العزيز فانكحوا ما طاب لكم من النساء }{[64609]}[ النساء : 3 ] ، { أو ما ملكت أيمانكم }[ النساء :3 ] ، { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء }[ النساء :22 ] ، { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }{[64610]}[ النساء :24 ] { وأحل لكم ما وراء ذلكم }[ النساء : 24 ] ، { فما استمتعتم به منهن }[ النساء :24 ] ، { فما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات }[ النساء :25 ] ، { إلا على أزواجكم أو ما ملكت أيمانهم }[ المؤمنون :6 ] ، وكان قد ختم سبحانه هذه الآيات التي أدب بها في غزوة الفتح بما أبان به ما لا يخرج عن الصلح في عمرة الحديبية مما هو أقرب إلى الخير من البر والعدل ، ونهى عن تولي الكفار ، فكانت المصاهرة والمناكحة من أعظم التولي ، وصل بذلك ما لا يخرج{[64611]} عنه ولا يخل {[64612]}بالعهد في أن{[64613]} من جاء من{[64614]} الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم رده إليهم وإن كان مسلماً ، فقال مخاطباً لأدنى أسنان أهل الإيمان الذين يحتاجون إلى التفهيم{[64615]} ، وأما من هو أعلى منهم فهو عالم بذلك مؤتمر به بما آتاه الله من الفهم وأنار به قلبه{[64616]} الشريف من فنون العلم ليكفوا النبي صلى الله عليه وسلم مقدمات البيعة منه لهن : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان - وهو إيقاع الأمان من التكذيب - لمن يخبرهم ما ينبغي التصديق به بسبب تصديقهم بالله سبحانه وتعالى .

ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أنه يأتيهم{[64617]} نساء يهربن بدينهن إلى الله ، بشرهم بذلك بالتعبير بأداة التحقيق فقال : { إذا } أي صدقوا ما ادعيتموه من الإيمان بأنه في أي زمان { جاءكم } ولما كان لا يهجر داره{[64618]} وعشيرته لا سيما إن كانوا أقارب بسبب كفرهم إلا من رسخ في الإيمان ذكراً كان أو أنثى قال : { المؤمنات } أي النساء اللاتي {[64619]}صار وصف{[64620]} الإيمان لهن{[64621]} صفة راسخة بدلالة الهجرة عليه : { مهاجرات } للكفار ولأرضهم { فامتحنوهن } أي اختبروهن تأكيداً لما دلت عليه الهجرة من الإيمان بالتحليف بأنهن{[64622]} ما خرجن لحدث أحدثته ولا بغضاً في زوج ولا رغبة في عشير ولا خرجن إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام ، قال الإمام شهاب الدين ابن النقيب في الهداية من مختصره للكفاية{[64623]} لفقيه المذهب نجم الدين أحمد بن الرفعة في شرح التنبيه : واختلف قول{[64624]} الشافعي رحمه الله تعالى : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط لقريش في الصلح رد{[64625]} النساء ففي قول : لم يشترطه بل أطلق رد من جاءه فتوهموا تناول النساء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عالماً بعدم دخولهن ، فأطلق ذلك حذيفة يعني ومن شرعه أن الحرب خدعة ، وفي قوله : شملهن الشرط ، لكن هل شرطه صريحاً أم دخلن في الإطلاق فيه وجهان أظهرهما الثاني ، وهل كان شرطهن جائزاً{[64626]} فيه وجهان : أحدهما نعم ثم نسخ ، وهل ناسخه الآية المذكورة أم منع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد فيه وجهان مبنيان على أنه هل{[64627]} يجوز نسخ السنة بالقرآن{[64628]} وفيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى ، ومختاره منهما المنع وهو الجديد ، وكذا لا يجوز عنده وعند أصحابه نسخ الكتاب بالسنة وإن كانت متواترة{[64629]} - انتهى .

ومعناه أنه لم يقع فإن وقع نسخها بالقرآن كان معه سنة ، وإن وقع نسخه بالسنة كان معها قرآن{[64630]} ، وهو معنى قول ابن السبكي في جمع الجوامع : قال الشافعي رضي الله عنه : وحيث وقع بالسنة فمعها قرآن أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة تبين توافق الكتاب والسنة .

ولما كان الاختبار ربما دل إيمانهن لا يعلم{[64631]} إلا به ، نفى ذلك بقوله مستأنفاً في جواب من يقول : أليس الله بعالم بذلك ، ومفيداً أن علمكم الذي تصلون إليه بالامتحان ليس بعلم ، وإنما سماه به{[64632]} إيذاناً بأن الظن الغالب في حقكم بالاجتهاد والقياس قائم مقام العلم يخرج من عهدة { ولا تقف ما ليس لك به علم }[ الإسراء : 36 ] : { الله } المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { أعلم } أي منكم ومنهن بأنفسهن { بإيمانهن } هل هو كائن أو لا على وجه الرسوخ أو لا ، فإنه محيط بما غاب كإحاطته بما شهد ، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس ولئلا تكون شهادته لأحد بالإيمان و{[64633]}الكفران موصلة إلى عين اليقين فيخرج عن مبنى هذه الدار ، قال القشيري : وفي الجملة الامتحان طريق إلى المعرفة ، وجواهر النفس تتبين بالتجربة ، ومن أقدم على شيء {[64634]}من غير{[64635]} تجربة يجني كأس الندم ، قال : { فإن علمتموهن } أي العلم المتمكن لكم وهو الظن المؤكد بالأمارات الظاهرة بالحلف وغيره { مؤمنات } أي مخلصات في الهجرة لأجل{[64636]} الإيمان ، والتعبير بذلك لإيذان بمزيد الاحتياط .

ولما ذكر هذا الامتحان بين أنه علة لحمايتهن والدفع عنهن فأتبعه مسببه فقال : { فلا ترجعوهن } أي بوجه من الوجوه { إلى الكفار } وإن كانوا أزواجاً ، ومن الدليل على{[64637]} أن هذا ظاهر في المراد وأن القرائن موضحة له أنه صلى الله عليه وسلم لما أبى{[64638]} أن يرد إليهم من جاءه{[64639]} من النساء لم يعب أحد من الكفار ذلك ، ولا نسب إلى عهده صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - خللاً ، ولولا أن ذلك كذلك{[64640]} لملؤوا الأرض تشغيباً كما فعلوا في سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخله التي نزل بسببها

( يسألونك عن الشهر الحرام }[ البقرة : 217 ] الآيات على أن الأخبار الصحيحة وغيرها ناطقة{[64641]} بأن هذه الآية{[64642]} نزلت في الحديبية قبل أن ينفصل الأمر غاية الانفصال ويستقر ، روى البخاري في المغازي من صحيحه والبغوي{[64643]} من طريقه وهذا لفظه من المروان والمسور بن مخرمة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : كاتب سهيل بن عمرو فكان ما اشترط على النبي صلى الله عليه وسلم أنه{[64644]} لا يأتيك أحد منا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فرد يومئذ أبا جندل إلى{[64645]} أبيه سهل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي عاتق{[64646]} فجاء أهلها {[64647]}إلى المدينة{[64648]} يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم كما أنزل الله فيهن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } وقال البغوي{[64649]} : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة{[64650]} على أن من أتاه من{[64651]} أهل مكة رده إليهم فجاءت سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، فأقبل زوجها ، وكان كافر ، فقال : يا محمد ! اردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن {[64652]}الله أعلم بإيمانهن{[64653]} } وقال ابن عباس رضي الله عنهما : امتحانها أن تستحلف أنها{[64654]} ما هاجرت لبغض زوج ولا عشقاً لرجل من المسلمين ولا رغبة عن أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس{[64655]} الدنيا وما خرجت إلا رغبة{[64656]} في الإسلام وحباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[64657]} على ذلك فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها ما أنفق عليها ، فزوجها{[64658]} عمر رضي الله عنه ، وكان صلى الله عليه وسلم يرد من جاءه{[64659]} من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ، ويعطي أزواجهن مهورهن ، و{[64660]}دعوى النسخ ليست بشيء إلا تؤول بأنه لما كان من العالم الذي أريد به الخصوص أن{[64661]} بعض ما تناوله ظاهر اللفظ من الحكم مرفوع ، وذلك بأن{[64662]} الله لا يأمر بإخلاف الوعد فكيف بنقض العهد . ولما نهى عن رد المهاجرات إلى المشركين وعبر بالكفار تعميماً{[64663]} ، علل ذلك بقوله مقدماً حكمهن{[64664]} تشريفاً لهن لهجرتهن : { لا هن } أي الأزواج { حل } {[64665]}أي موضع{[64666]} حل ثابت { لهم }{[64667]} أي للكفار باستمتاع{[64668]} ولا غيره . ولما كان نفي الحل الثابت غير مانع من تجدد حل الرجال لهن{[64669]} ولو على تقدير من التقادير وفرض من الفروض ، قال معيداً{[64670]} لذلك ومؤكداً لقطع العلاقة من كل جانب : { ولا هم } أي رجال الكفار { يحلون } أي يتجدد في وقت من الأوقات أن يحلوا { لهن } أي للمؤمنات حتى{[64671]} لو تصور أن يكون رجالهن نساء وهن ذكوراً ما حلوا لهن بخلاف أهل الكتاب ، كذا تنفك الملازمة في مسألة المظاهرة والإيلاء فيحل للمرأة أن تستمتع به إذا{[64672]} كان نائماً مثلاً ، وأما هو فيحرم عليه ذلك قبل التكفير ، وقال البيضاوي : الأولى لحصول الفرقة ، والثانية للمنع من الاستئناف - انتهى ، فنفت{[64673]} هذه الجملة الفعلية من وجه تجدد الحل للنساء فأفهمت الجملتان عدم الحرج فيما كان قبل ذلك تطييباً لقلوب المؤمنات{[64674]} .

ولما نهى عن الرد وعلله ، أمر بما قدم{[64675]} من الإقساط إليهم فقال : { وآتوهم } أي الأزواج { ما أنفقوا } أي عليهن من المهور فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية ، وأما الكسوة والنفقة فإنها لما يتجدد من الزمان .

ولما جزم{[64676]} بتأييد منعهن{[64677]} عن الكفار ، أباحهن للمسلمين فقال على وجه الرفق واللطف : { ولا جناح } أي ميل وحرج { عليكم } أيها المشرفون بالخطاب { أن تنكحوهن } أي تجددوا زواجكم{[64678]} بهن بعد الاستبراء وإن كان أزواجهن من الكفار لم يطلقوهن لزوال العلق منهم عنهن ولأن{[64679]} الإسلام فرق بينهم فإنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً . ولما كان قد أمر برد مهور الكفار ، فكان ربما ظن أنه مغن عن تجديد مهر لهن إذا نكحهن المسلم نفى ذلك بقوله : { إذا آتيتموهن } أي لأجل النكاح { أجورهن } ولما قطع ما{[64680]} بين الكفار والمسلمات مع الإعراض عن الكفار لعصيانهم قطع ما بين المؤمنين والكافرات مع الإقبال عليهم لطاعتهم رفعاً لشأنهم فقال : { ولا } ولما كان إمساك المرأة مع عداوتها لمخالفتها في الدين دليلاً على غاية الرغبة فيها ، دل على ذلك إشارة إلى التوبيخ{[64681]} بالتضعيف في قراءة البصريين فقال{[64682]} : { تمسكوا } أي بعدم التصريح في الطلاق { بعصم الكوافر } جمع عصمة وهي {[64683]}ما يديم{[64684]} علقة النكاح { واسألوا } أي أيها المؤمنون الذين ذهبت{[64685]} أزواجهم إلى الكفار { ما أنفقتم } أي من مهور نسائكم اللاتي اعتصمن عنكم بهم أو فررن إليهم . ولما أمر برد مهور المؤمنين إلى الكفار وأذن للمؤمنين في المطالبة بمهور أزواجهم ، أذن للكفار في مثل ذلك إيقاعاً للقسط بين عباده مسلمهم وكافرهم معبراً بالأمر مع الغيبة إعراضاً عنهم إعلاماً بشدة كراهته سبحانه للظلم وأنه يستوي فيه الكافر مع عداوته بالمؤمن مع ولايته : { وليسألوا } أي الكفار { ما أنفقوا } أي من مهور أزواجهم اللاتي أسلمن واعتصمن بكم عنهم ، وهل هذا الحكم باق ، قال قوم : نعم ، وقال عطاء ومجاهد وقتادة : نسخ فلا يعطي الكفار{[64686]} شيئاً ولو شرطنا الإعطاء .

ولما كان هذا حكماً عدلاً لا يفعله مع عدوه ووليه إلا حكيم ، قال مشيراً إلى مدحه ترغيباً فيه بميم{[64687]} الجمع إلى العموم : { ذلكم } أي{[64688]} الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة بعلو الرتبة عن كل سفه { حكم الله } أي{[64689]} الملك الذي له صفات الكمال ، فلا ينبغي لشائبة نقص أن يلحقه{[64690]} .

ولما كان هذا مما يفرح به ويغنم عند تقدير فواته ، قال مستأنفاً مبشراً بإدامة تجديد أمثاله لهم : { يحكم } أي الله أو حكمه على سبيل المبالغة ، ودل على استغراق الحكم لجميع ما يعرض بين العباد وأنه سبحانه لم يهمل{[64691]} شيئاً منه بإعراء الجار من قوله : { بينكم } أي في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع ، وذلك لأجل الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ، وأما قبل الحديبية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك النساء ولا يرد الصداق .

ولما كان التقدير : فالله حكم عدل ، قال : { والله } أي الذي له الإحاطة التامة { عليم } أي بالغ العلم لا يخفى عليه شيء { حكيم * } أي فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الإحكام فلا يستطيع أحد نقض شيء منها .


[64595]:- سقط ما يبن الرقمين من ظ وم.
[64596]:- سقط ما بين الرقمين من ظ و م.
[64597]:- من ظ وم، وفي الأصل: تحدروا.
[64598]:- زيد من م.
[64599]:- من ظ وم، وفي الأصل: عليهم.
[64600]:- زيد من ظ وم.
[64601]:- زيد من ظ و م
[64602]:- من ظ وم، وفي الأصل: الجزء.
[64603]:- وقع في الأصل بعد " على عمومها" والترتيب من ظ وم.
[64604]:- سقط ما بين الرقمين من ظ، وفي م: المخصوص.
[64605]:- سقط ما بين الرقمين من ظ، وفي م: المخصوص.
[64606]:- من ظ وم، وفي الأصل: المظاخر.
[64607]:- زيد من ظ وم.
[64608]:- زيد من ظ وم.
[64609]:- من ظ وم، وفي الأصل: إلا.
[64610]:- زيد من ظ وم.
[64611]:- من ظ وم، وفي الأصل: لم يخرج.
[64612]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالعدل ممن.
[64613]:-من ظ وم، وفي الأصل: بالعدل ممن.
[64614]:- من ظ وم، وفي الأصل: إلى
[64615]:- من ظ وم، وفي الأصل: التعميم.
[64616]:- من ظ وم، وفي الأصل: قلب.
[64617]:- من ظ وم، وفي الأصل: ياتيه.
[64618]:- من ظ وم، وفي الأصل: زمانه.
[64619]:- من م، وفي الأصل وظ: التي.
[64620]:- من ظ وم، وفي الأصل: وصفه.
[64621]:- من ظ وم، وفي الأصل: لهم.
[64622]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالإيمان.
[64623]:- من ظ وم، وفي الأصل: في الكفاية
[64624]:- زيد من ظ وم.
[64625]:- من ظ وم، وفي الأصل: فرد.
[64626]:- من ظ وم، وفي الأصل: جائز.
[64627]:- زيد من ظ وم.
[64628]:- من ظ وم، وفي الأصل: عن القرآن.
[64629]:- من ظ وم، وفي الأصل: مواثرة.
[64630]:- من ظ و م، وفي الأصل: قرانا.
[64631]:- زيد في الأصل: ذلك، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[64632]:- زيد من ظ وم.
[64633]:- من ظ وم، وفي الأصل: و.
[64634]:- من ظ وم، وفي الأصل: بغير.
[64635]:-من ظ وم، وفي الأصل: بغير.
[64636]:- من ظ وم، وفي الأصل: إلى.
[64637]:- زيد من ظ وم.
[64638]:- زيد من ظ وم.
[64639]:- من ظ وم، وفي الأصل: جاء.
[64640]:- زيد من ظ وم.
[64641]:- من ظ وم، وفي الأصل: قاطعة.
[64642]:- زيد من ظ وم، وفي الأصل: قاطعة.
[64643]:- راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 7/**
[64644]:- من ظ وم، وفي الأصل: إن.
[64645]:- من ظ وم، وفي الأصل: على.
[64646]:- زيد من ظ وم والمعالم.
[64647]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[64648]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[64649]:- راجع معالم التنزيل بهامش اللباب 7/
[64650]:- زيد من ظ وم والمعالم.
[64651]:- زيد من ظ وم والمعالم.
[64652]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[64653]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[64654]:- سقط من م.
[64655]:- من م، وفي الأصل وظ: لا لتماس.
[64656]:- من ظ وم، وفي الأصل: حبا.
[64657]:- زيد من ظ وم المعالم.
[64658]:- من ظ وم، وفي الأصل: ثم تزوجها.
[64659]:- في ظ وم: جاء
[64660]:- زيد من ظ وم والمعالم.
[64661]:- من ظ وم، وفي الأصل: بان.
[64662]:- من ظ وم، وفي الأصل: أن.
[64663]:- من ظ وم، وفي الأصل: تتميما.
[64664]:- من ظ وم، وفي الأصل: حكمين.
[64665]:- سقط ما بين الرقمين من ظ و م.
[64666]:- سقط ما بين الرقمين من ظ و م.
[64667]:- ليس في الأصل.
[64668]:- من ظ وم، وفي الأصل: باستماع.
[64669]:- من ظ وم، وفي الأصل: لهم.
[64670]:- من ظ وم، وفي الأصل: مقيدا.
[64671]:- زيد من ظ وم.
[64672]:- من ظ وم، وفي الأصل: إن.
[64673]:-زيد من ظ وم.
[64674]:- من ظ وم، وفي الأصل: المؤمنين.
[64675]:- من ظ وم، وفي الأصل: تقدم.
[64676]:- من ظ وم، وفي الأصل: حرم.
[64677]:- من ظ وم، وفي الأصل: منعمين.
[64678]:- من ظ وم، وفي الأصل: أزواجكم.
[64679]:- من ظ وم، وفي الأصل: فإن.
[64680]:- زيد من ظ وم.
[64681]:- من ظ وم، وفي الأصل: التلويح بالتوبيخ.
[64682]:- زيد في الأصل: ولا، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[64683]:- من ظ وم، وفي الأصل: تقديم.
[64684]:- من ظ وم، وفي الأصل: تقديم.
[64685]:- من ظ وم، وفي الأصل: ثبتت.
[64686]:- زيد من ظ وم.
[64687]:- من ظ وم، وفي الأصل: يجيم.
[64688]:- زيد في الأصل: هذا، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[64689]:- زيد من ظ وم.
[64690]:- من ظ وم، وفي الأصل: يلحق به.
[64691]:- من ظ وم، وفي الأصل: لا يهمل.