وبعد هذه اللمسات الثلاث في الأرض والنفس والسماء . يقسم الله سبحانه بذاته العلية على صدق هذا الحديث كله :
( فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون . . )
وكونهم ينطقون ، حقيقة بين أيديهم ، لا يجادلون فيها ولا يمارون ، ولا يرتابون فيها ولا يخرصون . . وكذلك هذا الحديث كله . والله أصدق القائلين .
وقد روى الأصمعي نادرة ذكرها الزمخشري في الكشاف ، ونسوقها نحن لطرافتها - في تحفظ من جانب الرواية ! - قال :
[ أقبلت من جامع البصرة ، فطلع أعرابي على قعود له . فقال : ممن الرجل ? قلت : من بني أصمع . قال : من أين أقبلت ? قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن . فقال : اتل علي . فتلوت : ( والذاريات ) . . فلما بلغت قوله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون )قال : حسبك ! فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ؛ وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ! فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف ؛ فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق . فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر . فسلم علي واستقرأ السورة . فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا ? فقرأت : ( فورب السماء والأرض إنه لحق ) . . فصاح قال : يا سبحان الله . من الذي أغضب الجليل حتى حلف ? لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين ! قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه ] . .
وهي نادرة تصح أو لا تصح . ولكنها تذكرنا بجلال هذا القسم من الله سبحانه . القسم بذاته . بصفته : رب السماء والأرض . مما يزيد الحقيقة المقسم عليها جلالا . وهي حقيقة بلا قسم ولا يمين .
23- { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } .
أقسم الحق سبحانه وتعالى بنفسه ، على أن الرزق والغيب والقدر بيده ، وذكر المفسرون أن القسم شامل لكل ما تقدم في هذه السورة من أولها .
والمعنى : فورب السماء والأرض ، إن كل ما تقدم في هذه السورة من أخبار وأحوال ، وأوصاف وتذكير ، حق واقع ، وأمر ثابت لا يرقى إليه شك ، ولا يختلف في أحقيته أحد ، وكما أنكم لا تشكون في أنكم تنطقون ، ينبغي ألا تشكوا في حقيقته ، فهو كما نقول : إن هذا حق مثل ما أنك تبصر وتسمع .
أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن أنه قال فيها : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا ) .
فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهًا ، ينتبه به الذكي اللبيب ، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق ، وشبه ذلك ، بأظهر الأشياء [ لنا ] وهو النطق ، فقال : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } فكما لا تشكون في نطقكم ، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت{[848]} .
ثم أقسم بنفسه فقال : { فورب السماء والأرض إنه لحق } أي : ما ذكرت من أمر الرزق لحق ، { مثل } قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعاصم : ( مثل ) برفع اللام بدلاً من ( الحق ) وقرأ الآخرون بالنصب أي كمثل ، { ما أنكم تنطقون } فتقولون : لا إله إلا الله . وقيل : شبه تحقق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ، كما تقول : إنه لحق كما أنت هاهنا ، وإنه لحق كما أنك تتكلم ، والمعنى : أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة . قال بعض الحكماء : يعني : كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره .
ولما أقسم بما له من المقدورات لمن وقف مع المحسوسات المشهورات ، فترقوا بذلك إلى أعلى الدرجات ، وانكشف ما له من الكمال انكشافاً تاماً ، وعلم أن في خزائنه سبحانه كل ما أخبرت عنه به الرسل من وعد ووعيد ، سبب عنه قوله مقسماً بنفسه الأقدس لكن بصفة مألوفة فقال : { فورب } أي مبدع ومدبر { السماء والأرض } بما أودع فيهما مما علمتموه وما{[61352]} لم تعلموه { إنه } أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق { لحق } أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع{[61353]} الصدق { مثل ما أنكم } أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها { تنطقون{[61354]} * } نطقاً مجدداً في كل وقت مستمراً ، ليس{[61355]} هو بخيال ولا سحر ، {[61356]}أي أن{[61357]} ذلك لحق مثل ما أن هذا حق ، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها ، ومع ما عداكم من{[61358]} ذلك بأسباب مثل ذلك-{[61359]} قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك بما جعل فيكم من الحياة التي يصح بها العلم الناشىء عنه النطق المحوج إلى الرزق من أي جهة أرادوا ، وإن لم تروا أسبابه كما أنه لو أراد لأنطق جميع من في السماوات والأرض من الجمادات بما يقيمه لها من الأسباب التي أقامها لكم وإن لم تروا ذلك .
قوله : { فورب السماء والأرض إنه لحق } يقسم الله بنفسه وهو خالق السماء والأرض ومالكهما على أن ما قاله للناس من أن رزقهم في السماء وما يوعدون من خير وشر ، لهو حق { مثل ما أنكم تنطقون } مثل ، منصوب على الحال . وما زائدة{[4333]} . والمعنى أن هذا لهو الحق كما أنكم تتكلمون أو كمثل نطقكم .
وعن الأصمعي قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع . قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمان . فقال : اتل علي منه شيئا . فقرأت { والذاريات ذروا } إلى قوله : { وفي السماء رزقكم } فقال : يا أصمعي حسبك ! فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر . وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى . فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف . فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر ، فسلم علي واستقرأ السورة . فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا . ثم قال : وهل غير هذا . فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى لجأوه إلى اليمين . قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه{[4334]} .