ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه ، فلن يقبل منها عذر ، لأن نفسه موكولة إليه ، وهو موكل بها ، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها . فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها :
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) . .
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير : الفقر . والفواصل . والإيقاع الموسيقي . والمشاهد الخاطفة . وكذلك عملية الحساب : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )هكذا في سرعة وإجمال . . ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب !
ولو ألقى معاذيره : ولو جاء بكل عذر لم ينفعه .
أي : الإنسان شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ، فهو حجة بينة على أعماله ، ولو اعتذر أو أنكر لما قبل منه .
وقال ابن عباس وغيره : إن المراد سمعه وبصره ، ويداه ورجلاه وجوارحه ، وكلها تشهد عليه بالحق .
ولو ألقى معاذيره . ولو اعتذر بباطل لا يقبل منه .
قال ابن كثير : والصحيح قول مجاهد وأصحابه .
كقوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين . ( الأنعام : 23 ) .
وكقوله تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له ، كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . ( المجادلة : 18 ) .
فإذا حاول الإنسان الإنكار شهدت عليه جوارحه ، ويقال له : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . ( الإسراء : 14 ) .
أي : لا مجال للإنكار في ذلك اليوم ، لأنه اليوم الحق ، وهناك الحفظة والكرام الكاتبون ، لأنه يوم يحق فيه الحق ، ويمحق الباطل .
المسألة الرابعة- قوله تعالى : " ولو ألقى معاذيره " ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه . وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله ، فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة : يقبل رجوعه بعد الإقرار . وقال به مالك في أحد قوليه ، وقال في القول الآخر : لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا .
والصحيح جواز الرجوع مطلقا ؛ لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه ، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( أبك جنون ) قال : لا . قال : ( أحصنت ) قال : نعم . وفي حديث البخاري : ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) . وفي النسائي وأبي داود : حتى قال له في الخامسة ( أجامعتها{[15624]} ) قال : نعم . قال : ( حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ) قال : نعم . قال : ( كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ) . قال : نعم . ثم قال : ( هل تدري ما الزنى ) قال : نعم ، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا . قال : ( فما تريد مني ) ؟ قال : أريد أن تطهرني . قال : فأمر به فرجم . قال الترمذي وأبو داود : فلما وجد مس الحجارة فر يشتد{[15625]} ، فضربه رجل بلحى جمل ، وضربه الناس حتى مات . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هلا تركتموه ) وقال أبو داود والنسائي : ليثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما لترك حد فلا . وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله . وفي قوله عليه السلام : ( لعلك قبلت أو غمزت ) إشارة إلى قول مالك : إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها .
الخامسة- وهذا في الحر المالك لأمر نفسه ، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين : إما أن يقر على بدنه ، أو على ما في يده وذمته ، فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه . وقال محمد بن الحسن : لا يقبل ذلك منه ؛ لأن بدنه مستغرق لحق السيد ، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد ) . المعنى : أن محل العقوبة أصل الخلقة ، وهي ( الدمية{[15626]} ) في الآدمية ، ولا حق للسيد فيها ، وإنما حقه في الوصف والتبع ، وهي المالية الطارئة عليه ، ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل ، حتى قال أبو حنيفة : إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له . وقال علماؤنا : السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق ؛ لأن مال العبد للسيد إجماعا ، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه ، لا سيما وأبو حنيفة يقول : إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك ، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه . ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين . والله أعلم .
ولما كان الإنسان يعتذر في ذلك اليوم عن كل سوء عمله ، ويجادل أعظم مجادلة ، وكان المجادل في الغالب يظن-{[70183]} أنه لم يذنب أو لا يعلم له ذنباً ، قال : { ولو ألقى } أي ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة{[70184]} على غاية الصدق والاهتمام والتملق { معاذيره * } أي كل كلام يمكن أن يخلص به ، جمع عذر أو معذرة وهو إيساع الحيلة في دفع الخلل{[70185]} : وقال في القاموس : المعاذير : الستور والحجج جمع معذار{[70186]} ، وذلك لاشتراكهما في مطلق الستر بالفتح والستر بالكسر في ستر{[70187]} المذنب والحجة في ستر{[70188]} الذنب فالمعنى أنه حجة على نفسه ولو احتج عنها واجتهد في ستر عيوبها ، فلا تقبل منها الأعذار ، لأنه قد أعطى البصيرة فأعماها بهوى النفس وشهواتها ، وتلك البصيرة هي نور {[70189]}المعرفة المركوز{[70190]} في الفطرة الأولى وهي كقوله تعالى : { لا ينفع الظالمين معذرتهم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.