في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

16

وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى . قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها . فلا تجزع الجزع الذي تطير به شعاعا وتذهب معه حسرات عند الضراء . ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء :

( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ) . .

فاتساع أفق النظر ، والتعامل مع الوجود الكبير ، وتصور الأزل والأبد ، ورؤية الأحداث في مواضعها المقدرة في علم الله ، الثابتة في تصميم هذا الكون . . كل أولئك يجعل النفس أفسح وأكبر وأكثر ثباتا ورزانة في مواجهة الأحداث العابرة . حين تتكشف للوجود الإنساني وهي مارة به في حركة الوجود الكوني .

إن الإنسان يجزع ويستطار وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود . ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير . فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به ، وتمر بغيره ، والأرض كلها . . ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود . . وأن هذه الذرات كائنة في موضعها في التصميم الكامل الدقيق . لازم بعضها لبعض . وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون . . حين يستقر هذا في تصوره وشعوره ، فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء . فلا يأسى على فائت أسى يضعضعه ويزلزله ، ولا يفرح بحاصل فرحا يستخفه ويذهله . ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية وفي رضى . رضى العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون !

وهذه درجة قد لا يستطيعها إلا القليلون . فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء ، ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله ، وذكره بهذه وبتلك ، والاعتدال في الفرح والحزن . قال عكرمة - رضي الله عنه - " ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا " . . وهذا هو اعتدال الإسلام الميسر للأسوياء . .

والله لا يحب كل مختال فخور .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

20

المفردات :

تأسوا : تحزنوا .

ما فاتكم : من نعيم الدنيا .

ما آتاكم : ما أعطاكم .

المختال : المتكبر بسبب فضيلة تراءت له في نفسه .

فخور : كثير الفخر بالأشياء العارضة كالمال والجاه .

التفسير :

23- { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .

لقد أبدع الله القضاء والقدر ، وكتب على كل نفس عمرها وأجلها وحظها ، وفقرها أو غناها ، وشقاءها أو سعادتها ، حتى لا يحزن إنسان على مفقود حزنا يخرجه عن الاعتدال والتماسك ، لأن أجلها قد خُطّ في الأزل ، فإذا انتقلت نفس إلى الموت أو الهلاك فإنما تُحقق ما كتب عليها في الأزل .

{ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ . . . }

أي : لا تفرحوا فرحا مطغيا يخرجكم عن حدّ الاعتدال ، ويخرجكم عن الشكر لله صاحب النعمة ، إلى البطر والاختيال والتباهي بما حدث ، كأنه من صنع الإنسان .

ونلاحظ أن الحزن على المفقود فطرة إنسانية ، والفرح بالنعمة فطرة إنسانية ، فكيف ينهى الله عن الحزن على المفقود ، أو الفرح بالموجود ؟

والجواب : إنما نهى الله عن الحزن الذي يجرّ إلى الجزع والقنوط والهلع ، وينسي الإنسان القضاء والقدر ، وأن كل نفس قد كتب عليها ما يصيبها ، وهي لا تزال حملا في بطن أمّها ، وقد خُطّ في القدر كل شيء يصيبها ، وكذلك الفرح فطرة في النفس ، تحتاج إلى اليقين بأن الله هو المعطي والمتفضل والمانح لهذه النعمة ، لكن بعض الناس يختال ويفتخر ، ويتطاول على عباد الله بأنعم الله ، ويجره ذلك إلى الطغيان ويُلْهيه عن الشكر .

قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا ، والحزن صبرا .

ولا يصح النهي عن شيء من طبائع البشر ، كالفرح والحزن والغضب ، وإنما النهي وارد على مقدمات الغضب ، وتعاطي أسبابه ، وقد أمر الإنسان عند الغضب أن يتذكر هوان الدنيا ، وأن متاعها قليل ، وأنها إلى فناء حتى يهدأ غضبه ، وكذلك عند الحزن يتذكر القضاء والقدر ، وثواب الصبر على المصيبة ، وأجر الصابرين الراضين المؤمنين ، الذين يفوضون إلى الله الأمور ، وكذلك عند الفرح والسرور يذكر المؤمن فضل الله عليه ، فيزداد شكرا وعرفانا وتواضعا ، ويقينا بأن مصدر النعمة هو الله تعالى .

وفي الحديث الصحيح : " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، إن أصابته نعماء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " 23

فالمؤمن الحق هو نور الله في الأرض ، والمؤمن متجانس مع هذا الكون ، والمؤمن خليفة الله حقا في أرضه ، وهو قدر من أقدار الله ، وهو راض عن الله ، وهو شاكر على النعماء ، صابر على البأساء ، راض بالقضاء والقدر ، خيره وشره ، حلوه ومره .

وغير المؤمن تخرجه المصيبة عن اتزانه وتماسكه ، وربّما جره ذلك إلى المرض أو الانتحار أو الانكسار ، وغير المؤمن ينظر إلى النعمة على أنها من كدّه وعلمه وخصوصيته ، وربما نسي الشكر ، وربما نسي أن الفضل لله ، وهو صاحب الفضل الكبير .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر ، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه ، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر فظ غليظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه ، كما قال تبارك وتعالى : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بل هي فتنة }

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} من الخير والغنيمة {ولا تفرحوا بما آتاكم} من الخير فتختالوا وتفخروا، فذلك قوله: {والله لا يحب كل مختال فخور} يعني متكبر عن عبادة الله عز وجل فخور في نعم الله تعالى لا يشكر...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم، إلا في كتاب قد كُتب ذلك فيه من قبل أن نخلق نفوسكم" لِكَيْلا تَأسَوْا "يقول: لكيلا تحزنوا على ما فاتَكُمْ من الدنيا، فلم تدركوه منها "وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ" منها. ومعنى قوله: "بِما آتاكُمْ" إذا مدّت الألف منها: بالذي أعطاكم منها ربكم وملّككم وخَوّلكم وإذا قُصرت الألف، فمعناها: بالذي جاءكم منها... وقوله: "واللّهَ لا يُحِبّ كُلّ مُختالٍ فَخورٍ" يقول: والله لا يحبّ كلّ متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم} جعل الله تعالى في طباع الخلق الحزن والأسى على ما فاتكم من النعمة، وينزل بهم من البلاء والشدة، والفرح والسرور بما ينالون من النعمة. هذا هو المنشأ والمجعول في طباعهم. ثم يخرج تأويل الآية بالنهي عن الأسى والحزن بفوت النعمة وعن الفرح والسرور عند إصابتها على وجوه: أحدها: يقول، والله أعلم: لئلا تستكثروا من الأسى والحزن على ما فاتكم، فيحملكم ذلك على الشكوى من الله تعالى {ولا تفرحوا بما آتاكم} أي لا تستكثروا الفرح والسرور حتى يحملكم ذلك على الطغيان والعدوان...

ويحتمل أن يقول: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} ولكن انظروا إلى ما امتحنكم به و ابتلاكم؛ إذ هو امتحن بعضا بالشدائد والبلايا، وأمرهم بالصبر على ذلك، وبعضا بالسعة والرخاء، وأمرهم بالشكر على ذلك، فاصبروا، ولا تجزعوا إن فاتتكم النعم، وأصابتكم المصائب، واشكروا له، ولا تفرحوا عند النعم فرحا، يكون بطرا وأشرا. أو يقول: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} فإن الذي أخذ منكم لم يكن في الحقيقة لكم، إنما هو لغيركم، ومن كان عنده مال لآخر، فيأخذه، فلا يجب أن يحزن على ذلك..وقوله تعالى: {والله لا يحب كل مختال فخور} ولكن يحب ضد ذلك وخلاف المختال المتكبر، فيحب المتواضع الخاضع؛ والفخور، هو الذي يفتخر بما أنعم الله تعالى عليه وعلى الناس، ويحب الشكور الذي يشكر على نعمه بالتوسيع على عباده...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(لكيلا تأسوا على ما فاتكم) الأسى: هو الحزن والتندم.وعن بعضهم معناه: لا يجاوز ما حده الله تعالى يعني: لا يجزع عند المصيبة جزعا يخرجه إلى ترك الرضا، ولا يفرح عند النعمة فرحا يخرجه عن طاعة الله، أو يمسكها عن حقوقها، ولكن إذا علم أن الكل بقضاء الله وقدره، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم لكم يكن ليخطئه، هان عليه ما فات، ولم يفرح بما أصاب.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يعني أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي؛ لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا محالة: لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أنّ بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال: لم يعظم فرحه عند نيله {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه: اختال وافتخر به وتكبر على الناس. قرىء: «بما آتاكم» وأتاكم، من الإيتاء والإتيان. وفي قراءة ابن مسعود «بما أوتيتم»

فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح. قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهى عن الشكر؛ فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر: فلا بأس بهما.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى. قيمتها في النفس البشرية أن تسكب فيها السكون والطمأنينة عند استقبال الأحداث خيرها وشرها...

. وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون.. حين يستقر هذا في تصوره وشعوره، فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء. فلا يأسى على فائت أسى يضعضعه ويزلزله، ولا يفرح بحاصل فرحا يستخفه ويذهله. ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية وفي رضى. رضى العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون! وهذه درجة قد لا يستطيعها إلا القليلون. فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء، ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله، وذكره بهذه وبتلك، والاعتدال في الفرح والحزن..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمعنى: أخبرتكم بذلك لتكونوا حكماء بُصراء فتعلموا أن لجميع ذلك أسباباً وعللاً، وأن للعالم نظاماً مرتبطاً بعضه ببعض، وأن الآثار حاصلة عقب مؤثراتها لا محالة، وإن إفضاءها إليها بعضه خارجِ عن طوق البشر ومتجاوز حد معالجته ومحاولتِه، وفعل الفوات مشعر بأن الفائتَ قد سعى المفوتُ عليه في تحصيله ثم غُلب على نواله بخروجه عن مِكنته، فإذا رسخ ذلك في علم أحد لم يحزن على ما فاته مما لا يستطيع دفعه ولم يغفل عن ترقب زوال ما يسره إذا كان مما يسره، ومن لم يتخلق بخلُق الإسلام يتخبط في الجوع إذا أصابه مصاب ويُستطار خُيلاء وتطاولاً إذا ناله أمر محبوب فيخرج عن الحكمة في الحالين. والمقصود من هذا التنبيهُ على أن المفرحات صائرة إلى زوال وأن زوالها مصيبة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). هاتان الجملتان القصيرتان تحلاّن في الحقيقة إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة، لأنّ الإنسان يواجه دائماً مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود، ويسأل دائماً نفسه هذا السؤال وهو: رغم أنّ الله رحمن رحيم وكريم..، فلماذا هذه الحوادث المؤلمة؟! ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو: ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة.. كما ورد في الآية أعلاه. والمطلوب أن تتعاملوا مع هذا المعبر والجسر الذي اسمه الدنيا بشكل لا تستولي على لباب قلوبكم، وتفقدوا معها شخصيّتكم وكيانكم وتحسبون أنّها خالدة وباقية...هذه المصائب هي إنذار للغافلين... وهذا لا يعني أن يعرض الإنسان عن الهبات الإلهية في هذا العالم أو يمتنع من الاستفادة منها، ولكن المهمّ ألاّ يصبح أسيراً فيها...والجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ (فاتكم) للدلالة على ما فقده الإنسان من أشياء، أمّا ما يخصّ الهبات والنعم التي حصل عليها فإنّه ينسبها لله، (بما آتاكم)، وحيث أنّ الفوت والفناء يكمن في ذات الأشياء، وهذا الوجود هو من الفيض الإلهي. نعم، إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية: (إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور). «مختال» من مادّة (خيال) بمعنى متكبّر، لأنّ التكبّر من التخيّل، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه، وتصوّره أنّه أعلى من الآخرين. و (فخور) صيغة مبالغة من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيراً على الآخرين. والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل. ومن ملاحظة ما تقدّم أعلاه فإنّ المؤمنين عندما يرزقون النعم...يعتبرون أنفسهم كالأشخاص المسؤولين عن بيت المال إذ يستلمون في يوم أموالا كثيرة ويدفعونها في اليوم الثاني، وعندئذ لا يفرحون باستلامها، ولا يحزنون على إعطائها. وكم هو تعبير رائع ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) حول هذه الآية: «الزهد كلّه بين كلمتين في القرآن الكريم قال تعالى: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه». والنقطة الأخرى الجديرة بالملاحظة هي أنّ هذا الأصل وجود المصائب في حياة الإنسان أمر قدّر عليه طبقاً لسنّة حكيمة، حيث إنّ الدنيا في حالة غير مستقرّة، وهذا الأصل يعطي للإنسان الشجاعة لتحمّل المصائب ويمنحه الصلاة والسكينة أمام الحوادث ويكون مانعاً له من الجزع والضجر.. ونؤكّد مرّة أخرى أنّ هذا يتعلّق فقط بالمصائب المقدّرة والغير قابلة للردّ، وإلاّ فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات والالتزامات الإلهيّة، فإنّها خارجة عن هذا البحث، ولمواجهتها لابدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان...

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

{ لكي لا تأسوا على ما فاتكم } من الدنيا { ولا تفرحوا بما آتاكم } أعطاكم منها أي لكيلا تحزنوا حزنا يطغيكم ولا تبطروا بالفرح بعد أن علمتم أن ما يصيبكم من خير وشر فمكتوب لا يخطئكم { والله لا يحب كل مختال } متكبر بما أوتي من الدنيا { فخور } به على الناس

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

قوله تعالى : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه . وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) ثم قرأ " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم " ولا تفرحوا بما آتاكم " أي من الدنيا ، قال ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : من العافية والخصب . وروى عكرمة عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا . والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ، قال الله تعالى : " والله لا يحب كل مختال فخور{[14727]} " أي متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس . وقراءة العامة " آتاكم " بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا . واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو " أتاكم " بقصر الألف واختاره أبو عبيد . أي جاءكم ، وهو معادل ل " فاتكم " ولهذا لم يقل أفاتكم . قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت ، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت . وقيل لبرزجمهر : أيها الحكيم ! مالك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعَبْرَة ، والآتي لا يستدام بالحَبْرَة . وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى : الدنيا مُبِيد ومُفِيد ، فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد آذن بالرحيل . وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار ، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار ، وكلاهما شرك خفي . والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن ، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك ، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدّع فهو الفخور .


[14727]:راجع جـ 14 ص 69.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ} (23)

{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } المعنى : فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تسلموا لقضاء الله ولا تكترثوا بأمور الدنيا ، ومعنى : لا تأسوا لا تحزنوا أي : فلا تحزنوا على ما فاتكم منها ولا تفرحوا فيها وقرأ الجمهور بما آتاكم بالمد أي : بما أعطاكم الله من الدنيا ، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم بالقصر أي : بما جاءكم من الدنيا فإن قيل : إن الإنسان لا يملك نفسه أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أتى بمال كثير : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا ، فالجواب : أن النهي عن الفرح إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان ، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم .

{ كل مختال فخور } المختال صاحب الخيلاء والفخور شديد الفخر على الناس .