سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد . وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة ؛ وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة ؛ وتهزه هزاً عميقاً متواصلاً لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها ، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة . ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها ؛ يعرض في صور شتى .
ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدين الخالص . . . الخ . . . وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصاً . وإما مفهوماً . .
نصاً كقوله : قل : إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين . وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه . . . الخ . . أو قوله : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ? ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) .
ومفهوماً كقوله : ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ، ورجلا سلما لرجل . هل يستويان مثلاً : الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) . . أو قوله : ( أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه ، ومن يضلل الله فما له من هاد ، ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ) . .
وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته ، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة . ذلك كقوله : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى . فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله ، وأولئك هم أولوا الألباب . . ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . ومن يضلل الله فما له من هاد ) . . ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل . وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله . قل : تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار ) . .
وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة . . إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها . وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة ؛ ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت ! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها . ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة . مثل هذه الإشارات : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ? ) . . ( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) . . ( أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ? ) . . ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? ) . . ( ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) . . ( أليس في جهنم مثوى للكافرين ? ) . . ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ؛ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) . . ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغته وأنتم لا تشعرون . أن تقول نفس : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين . أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين . أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . . ) . . وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزاً من السورة كبيراً ، وتظلل جوها بظلال الآخرة .
أما المشاهد الكونية التي لاحظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة . .
هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها : ( خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ألا هو العزيز الغفار ) . .
ومشهد آخر في وسطها : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ؛ ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ؛ ثم يهيج فتراه مصفراً ؛ ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . .
وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذين المشهدين البارزين .
كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر ، وفي أغوار نفوسهم ، تتوزع في ثناياها .
يرد في مطالعها عن نشأة البشرية : ( خلقكم من نفس واحدة ؛ ثم جعل منها زوجها . وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث . ذلكم الله ربكم له الملك . لا إله إلا هو ، فأنى تصرفون ? ) .
ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ؛ ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل . . . الخ . . ( فإذا مس الإنسان ضر دعانا ؛ ثم إذا خولناه نعمة منا قال : إنما أوتيته على علم بل هي فتنة . . ) . .
ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة الله في كل حالة : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ؛ فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
ولكن ظل الآخرة وجوها يظل مسيطراً على السورة كلها كما أسلفنا . حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وجوه : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، وقضي بينهم بالحق ، وقيل : الحمد لله رب العالمين ) .
هذا الظل يتناسق مع جو السورة ، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها . فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش . ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه وانتفاضه وخشيته . نجد هذا في صورة القانت( آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) . وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب ، والتخويف منه : ( قل : يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ) . ( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) . . ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل . ذلك يخوف الله به عباده . يا عباد فاتقون ) . . ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع .
والسورة تعالج الموضوع الواحد الرئيسي فيها في جولات قصيرة متتابعة ؛ تكاد كل جولة منها تختم بمشهد من مشاهد القيامة ، أو ظل من ظلالها . وسنحاول أن نستعرض هذه الجولات المتتابعة كما وردت في السياق . إذ أنه يصعب تقسيم السورة إلى دروس كبيرة . وكل مجموعة قليلة من آياتها تصلح حلقة تعرض في موضعها . ومجموع هذه الحلقات يتناول حقيقة واحدة . حقيقة التوحيد الكبيرة . .
( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، فاعبد الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدين الخالص ، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون . إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) .
تبدأ السورة بهذا التقرير الحاسم .
( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . .
الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولماذا أنزله ؛ ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير .
ولا يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طويلاً ؛ فهي مقدمة للقضية الأصيلة التي تكاد السورة تكون وقفاً عليها ؛ والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها . قضية توحيد الله ، وإفراده بالعبادة ، وإخلاص الدين له ، وتنزيهه عن الشرك في كل صورة من صوره ؛ والاتجاه إليه مباشرة بلا وسيط ولا شفيع :
سورة الزمر مكية ، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وآياتها 75 آية .
نزلت بعد سورة سبأ ، وقد سميت سورة الزمر بذلك الاسم لقوله تعالى في آخرها : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا . . . } ( الزمر : 71 ) ، وقوله تعالى : { وسيق الذي اتقوا إلى الجنة زمرا . . . } ( الزمر 73 ) .
وللسورة اسمان : سورة الزمر ، وسورة الغرف ، لقوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف . . . } ( الزمر : 20 ) .
سورة الزمر تهز القلب هزّا ، وتسكب فيه مؤثرات الإيمان بالله ، وتستعرض أمامه أدلة القدرة الإلهية ، والجزاء العادل في الدنيا والآخرة ، وتفتح باب الرجاء الآمل في رحمة الله ورضوانه ، ومن آياتها الشهيرة قوله تعالى : { قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } . ( الزمر : 53 ) .
ومنذ افتتاح السورة إلى نهايتها وهي تؤكد على قضية التوحيد الخالص ، ففي مطلع السورة : { ألا لله الدين الخالص . . . } ( الزمر : 3 ) .
وفي خلال السورة نجد لمسات متوالية للقلوب والأفئدة ، تعرض عليها أدلة القدرة ومشاهد الكون ، وخلق الليل والنهار ، وإنزال المطر وإنبات النبات ، وبدء الخليقة ، ومراحل خلق الجنين ، وطبيعة النفس في اللجوء إلى الله في الضراء ، والإعراض عنه في السراء ، من أن يموت قائم على رءوس العباد .
مشاهد الآخرة تظلل السورة وتسيطر على ختامها ، حيث نجد الملائكة حافين من حول العرش ، ونرى المؤمنين يساقون إلى الجنة أفواجا وجماعات في تكريم إلهي ، وسلام ونعيم في الخلود ، ونرى الكفار يساقون إلى جهنم زمرا في مهانة وإذلال .
" وظل الآخرة في السورة يتناسق مع جوها ، وأهداف اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها ، فهذه اللمسات أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش ، ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشة وانتفاضة وخشية ، نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، وفي صورة الذين يخشون ربهم ، حيث تقشعر جلودهم لهذا القرآن ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، كما نجده في التوجيه إلى التقوى ، والخوف من العذاب والتخفيف منه ، ثم نجده في مشاهد القيامة ، وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع " {[1]} .
في الآيات الأولى من السورة حث على إخلاص العبادة لله ، ثم نهى عن اتخاذ الأنداد والأولياء ، ثم نجد القرآن يلمس القلوب فيبين قدرة الله في خلق الناس من نفس واحدة ، وتزويجها من جنسها ، وخلق الأنعام أزواجا كذلك ، وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث ، ومنحهم خصائص جنسهم البشري أول مرة ، ثم منحهم خصائص البقاء والارتقاء ، وقد استغرقت هذه الفقرة الآيات من ( 1-7 )
في الفقرة الثانية نجد أن الآيات من ( 8-20 ) قد لمست القلوب لمسة أخرى ، وهي تعرض على الناس صورتهم في الضراء وصورتهم في السراء ، وتريهم تقلبهم وضعفهم وقلة ثباتهم على نهج إلا حين يتصلون بربهم ويتطلعون إليه ، ويقنتون له ، فيعرفون الطريق ، ويعلمون الحقيقة وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان .
ثم وجهت الآيات النبي صلى الله عليه وسلم إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة ، وإعلان خوفه من معصية الله ، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه وتركهم هم إلى منهجهم وطريقهم ، وبيان عاقبة هذا الطريق وذلك يوم يكون الحساب .
في الآيات من ( 21-35 ) لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء ، ثم نهاية النبات في فترة وجيزة ، وكذلك شأن الدنيا ، ثم تشير الآيات إلى الكتاب المنزل من السماء كذلك لتحيا به القلوب ، وتنشرح له الصدور ، مع تصوير لعاقبة المستجيبين لذكر الله ، والقاسية قلوبهم من ذكر الله .
ثم تضرب الآيات مثالا لمن يعبد إلها واحدا ، ومن يعبد آلهة متعددة ، وهما لا يستويان مثلا ، ولا يتفقان حالا ، كما لا يستوي العبد الذي يملكه سادة متنازعون ، والعبد الذي يعمل لسيد واحد لا يتنازعه أحد فيه .
ثم تضيع حقيقة واقعة ، وهي تعرض الناس جميعا للموت والفناء ، الرسول والمرسل إليهم ، وسيتنوع الجزاء يوم القيامة ، فيُجازي الكافرين في جهنم ، ويُجازي الصادقون المصدقون جزاء المحسنين .
في الآيات من ( 36-61 ) نلمس قدرة القرآن الفائقة على إقامة الحجة وإقناع الإنسان ، وأخذ السبيل على البشرية حتى لا تجد بدا من الإذعان والانقياد ، وقد تناولت هذه الفقرة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة ، تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن ، وموقفه إزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة ، واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة ، ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ، ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى يوم القيامة ، ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستقيما .
يتلوا هذا بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم ، إنما الله هو المسيطر عليهم ، الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالتهم ، وليس لهم من دونه شفيع فإن الشفاعة لله جميعا ، وإليه ملك السماوات والأرض وإليه المرجع والمصير .
ثم تتعرض الآيات لوصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد ، وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك ، وتعقب على هذا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة وترك أمور المشركين لله ، وتُصوِّرهم يوم القيامة يودون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه ، وقد تكشفت لهم من الله ما يذهل ويخيف !
وتعرض الآيات موقف الإنسان من حال الهلع والجزع ، ثم في حال النعمة والرخاء ، فهو إذا أصابه الضر دعا الله وحده ، فإذا وهبه الله النعم والرخاء ادعى دعاوى عريضة ، وقال : إنما أوتيته على علم عندي ، هذه الكلمة التي قالها من سبق من المتبطرين والمتكبرين فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، وهو قادر على أن يبطش بكل جبار عنيد ، وما كان بسط الرزق وقبضه إلا سنة من سنن الله تجري وفق حكمته وتقديره ، وهو وحده الباسط القابض بيده الخلق والأمر .
ثم فتح الله أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة ، ودعا العصاة إلى الإنابة والاستقامة ، وإتباع منهج الحق والعدل من قبل أن يأتي يوم الحساب فتندم كل نفس ظالمة ، وتتمنى أن تعود إلى الدنيا لتستدرك ما فاتها ، وفي هذا اليوم تظهر الكآبة في وجوه الكافرين ، ويظهر الفوز والسرور في وجوه المؤمنين .
1- الله مستحق للعبادة دون سواه .
تعرض الآيات الأخيرة في السورة من ( 62-75 ) ألوان قدرة الله وجلاله وتفرده بالملك والتصرف في كل شيء ، وإذا تبينت لنا آثار هذه القدرة ظهرت أمامنا دعوة المشركين للنبي إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه ، مستغربة مستنكرة ، فكيف يعبد معه سبحانه غيره ، وله وحده مقاليد السماوات والأرض ؟ { وما قدروا الله حق قدره } ، وهم يشركون به ، وهو وحده المعبود القادر القاهر . { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } . فهي في تصرفه وملكه كما يتصرف الإنسان فيما هو داخل قبضته . { والسماوات مطويات بيمينه . . . } ( الزمر : 67 ) .
وستطوى هذه السماوات وتبدل بقدرة الله ، وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة ، ينتهي بموقف الملائكة حافين من حول العرش ، يسحبون بحمد ربهم . { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } . ( الزمر : 75 ) .
سورة مكية ، نزلت في الفقرة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، أي بعد الإسراء وقبل الهجرة ، وقد نزلت تهزّ القلب هزّا ، وتقدم أدلة التوحيد ، وتأخذ بيد الإنسان إلى التوبة والإنابة ، وتفتح أبواب التوبة على مصاريعها ، وتحذّر من الإصرار على الذنوب إلى أن يأتي الموت ، ويتمنى الإنسان العودة إلى الدنيا ، ليستدرك ما فاته فلا يستجاب له ، ثم تعرض في نهاية السورة مشاهد القيامة ، وتقدم المتقين إلى الجنة ، وحمدهم لله رب العالمين .
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( 1 )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ( 2 ) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ( 3 ) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ( 4 ) }
الكتاب : القرآن ، { تنزيل الكتاب } : مبتدأ ، { من الله } : خبر .
العزيز الحكيم : العزيز في ملكه ، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه .
1- { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } .
بهذه البداية البليغة بدأ الله تعالى سورة الزُّمر ، والزُّمَر جمع زمرة وهي الفوج المتبوع بفوج آخر ، فما أعظم الوحي والتنزيل الذي نزل به جبريل على النبي الأمين ، من الله العزيز الغالب الحكيم ، في أفعاله وتصرفاته ، ومن ذلك اختياره محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ رسالته للناس أجمعين .
لما تبين من التهديد في ص أنه سبحانه قادر على ما يريد ، ثم ختمها بأن القرآن ذكر للعالمين ، وأن كل ما فيه لا بد أن يرى لأنه واقع لا محالة لكن من غير عجلة ، فكانوا ربما قال متعنتهم : ما له إذا كان قادراً لا يعجل ما يريده بعد حين ، علل ذلك بأنه { تنزيل } أي بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكراً للعالمين ، ووضع موضع الضمير قوله : { الكتاب } للدلالة على جمعه لكل صلاح ، أي لا بد أن يرى جميع ما فيه لأن الشأن العظيم إنزاله على سبيل التنجيم للتقريب في فهمه وإيقاع كل شيء منه في أحسن أوقاته من غير عجلة ولا توان ، ثم أخبر عن هذا التنزيل بقوله : { من الله } أي المتصف بجميع صفات الكمال { العزيز } فلا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء { الحكيم * } الذي يضع الأشياء في محالها التي هي أوفق لها ، فلكونه منه لا من غيره كان ذكراً للعالمين ، صادقاً في كل ما يخبر به ، حكيماً في جميع أموره .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما بنيت سورة ص على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم الأنداد والشركاء ، ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض حال من تقدم ، وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب ، فقال تعالى { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين } { ألا لله الدين الخالص } وجاء قوله تعالى { والذين اتخذوا من دونه أولياء } - الآية في معرض أن لو قيل : عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص ، فسترى حاله ، وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم ، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال { لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى } - الآية ، فنزه نفسه عن عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه { هو الله الواحد القهار } ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتي النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة ، وهي نفس آدم عليه السلام ، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شيء وأدل شاهد ، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل ، ثم بين تعالى أنه غني عن الكل بقوله { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } ثم قال { ولا يرضى لعباده الكفر } فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى له بالكفر ، وحصل من ذلك مفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به ثم آنس من آمن ولم يتبع سبيل الشيطان وقبيلته من المشار إليهم في السورة قبل فقال تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم }[ الأسراء :7 ] { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة - انتهى .